أيها المسلمون، ليست التقوى مجردَ كلمة تُفتتح بها الخطب أو تذكر في طيات المواعظ فحسب،
بل هي كلمةٌ عظيمةٌ جامعةٌ ذات معنى كبير، من تدبره وعمل به أفلح وفاز وحاز على سعادة الدنيا والآخرة.
فإن الإنسان العاقل يتطلع ويتشوق إلى معرفة صفات المتقين أصحاب الرتب العلَّيةِ، والدرجات السّنيِّة، كي يتصف بصفاتهم، ويتخلق بأخلاقهم، وتعلوا همته في طلبها، ، ويبذل نفائس الأنفس في خطبتها وقرانها، ويعمل جاهداً على الاتصاف بها وإذا كان كذلك فإنه لا شيء يحجبه أمامها, وإنما عليه أن يتعرف عليها.
إذا أعجبتك خصال امرئ فكنه تكن مثل ما يعجبك
فليس على الجود والمكرمات إذا جئتها حاجب يحجبك
أيها المسلمون، إن المؤمن عندما يسمع أوامر الله ورسوله بلزوم التقوى وثواب المتقين تتوق نفسه إلى أن ينضمّ إلى تلك الفرقة الناجية والجماعة الطيبة، وأن يكون واحدًا من المتقين ليحيا حياة سعيدة في دنياه وآخرته، وعند ذلك يتساءل المسلم: كيف أكون من المتقين؟ وكيف ألتحق بركب عباد الله الصالحين؟
وللجواب على هذا السؤال نستعرض شيئًا من صفات المتقين وأعمالهم وأحوالهم:
إن أول صفة من صفات المتقين التي ذكرها الله في سورة البقرة أنهم يؤمنون بالغيب، والإيمان بالغيب أمر عسيرٌ إلا على من استسلم لله وأخلص قلبه لمولاه وعلم أن الله وحده هو ربه وأنه علام الغيوب وأنه لا راد لحكمه ولا معقب لكلماته وهو السميع العليم.
فهذا هو المؤمن الحق، فهو يؤمن بالله عز وجل وإن لم يره؛ لأنه رأى من آيات الله وعجائب مخلوقاته وبديع صنعه ما بهر العقول، وآمن بأن هناك ربًا عظيمًا هو الخالق البارئ المدبر لتلك المخلوقات، وأنه واحد أحد فرد صمد سبحانه وبحمده، وكذلك لأنه سمع آيات الله الشرعية المنزَّلة على رسوله محمد فآمن بربه وأيقن أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له.
الصفة الثانية من أوصاف المتقين: أنهم يقيمون الصلاة، وهذا يدل على شدة عنايتهم بهذا الركن العظيم من أركان الدين، والصلاة أعظم الأعمال على الإطلاق، فمن حافظ عليها واهتمّ بها رُجي له الخير والفلاح، ومن تهاون بها وتكاسل عنها كان من الخاسرين، قال : ((من حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورًا ولا برهانًا ولا نجاةً يوم القيامة، وحُشر مع فرعون وقارون وأبي بن خلف)) أخرجه أحمد بإسناد جيد.
الصفة الثالثة من صفات المتقين: أنهم مما رزقهم الله ينفقون، فهم يؤدون الزكاة الواجبة، ويتصدقون من أموالهم صدقة ترفع درجاتهم وتقربهم إلى مولاهم، ينفقونها في خدمة بيوت الله ونشر دين الله ومساعدة إخوانهم المسلمين من المحتاجين.
الصفة الرابعة: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ كان أحد الصالحين لا ينام من الليل إلا قليلا فقالت له أمه ألا تريح نفسك ؟ قال راحتها أريد فلا راحة في الدنيا وإنما الراحة تكون في الجنة
الصفة الخامسة والأخيرة من صفات المؤمنين المذكورة في سورة البقرة: أنهم بالآخرة يوقنون، فالمتقون يعلمون علم اليقين أنهم سيموتون ثم سُيبعثون ثم سيجازون بما كانوا يعملون؛ ولذلك فإنهم يُعِدُّون العدة ويحسنون العمل ويتزودون بالصالحات؛ علَّهم أن يُبَشَّروا بروح وريحان ورب راض غير غضبان.
أيها المؤمنون، إن أمامنا من الأهوال ما تشيب منه رؤوس الولدان، ابتداءً من سكرات الموت التي كان الإنسان يحيد عنها ويخاف منها، وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ، مرورًا بالنفخ في الصور، ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ، ثم بالحساب على تلك الأعمال التي غفل عنها الإنسان ثم رآها أمامه يوم القيامة وأبصرها ببصره الثاقب يومئذ، لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ، وانتهاء بالحكم القاطع بمصير كل إنسان فيقال في شأن الكافرين: أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ، ويقال للمتقين: ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ، فينادي أهل النار يريدون الخلاص فيجابون: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ .
فاستعدوا ـ يا عباد الله ـ لتلك الأهوال العظام والأحوال الجسام، فمن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المتقين، وأن يحشرنا في زمرة خير النبيين، وأن يثبتنا على الحق أجمعين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله