بقلم: سلام مروكي/ ملبورن- استراليا
عشتار وأشور يبكيان في متحف لوفر
تكلل الحب الجامح الذي ربط أشور بحبيبته عشتار بزواجهما في بلاد المهجر، كان أشور قد أَنهى دراسته العليا عن أثار مدينة بابل العريقة، وعشتار هي الاخرى إختارت لأطروحتها الانثروبولوجية (دور الاشوريين في تحضر الانسان) لإكمال دراستها الجامعية. وإتفق العروسان بعد إنهاء مراسيم الزفاف على قضاء شهر العسل في باريس تلك المدينة الجميلة الرومانسية التي طالما جمعت العشاق في مقاهي أزقتها وباحات متاحفها.
بينما كانت الطائرة التي إستقلاها الحببيبان تهبط في مطار شارل ديجول، كان أشور يتخيل متعة مشاهدة تلك الاثار العراقية الفريدة التي جمعها متحف لوفرالشهير ويستحضر في داخله إبداع أجداده الذين زودوا حضارة الانسان بأولى اللّبنات، أما الحسناء عشتار فكانت تتأمل مسيرة تطور الانسان منذ تعلمه الكتابة في وادي الرافدين حتى وصوله الى صناعة هذه الطائرة الحديثة الجبارة التي حملتهما الى أجمل مدينة في العالم. لقد حرص العروسان منذ اليوم الاول من إقامتهما أن يزورا متحف لوفر ليطّلعا على الكنوز الانسانية الرائعة التي تزيّن قاعاته وخاصة ذلك الجناح الذي جمع أجمل ما قدّمته للبشرية حضارة بلاد النهرين.
إنطلق العاشقان منذ الصباح الباكر نحو متحف لوفر حاملان عدّة التصوير وكل ما يحتاجه الزائر لتدوين ملاضاته وتسجيل ذكرياته. وبعد شراء التذاكر توجها مسرعين الى هدفهما المنشود ولما إمتثلا أمام مسلّة حمورابي ذلك الصرح التاريخي العظيم إفترش أشور الارض وجلس يتأمل هذه القطعة المخروطية من الحجر الاسود والمنقوش عليها بالخط المسماري أولى التشريعات وأقدم القوانين في تاريخ البشرية. بينما حامت عشتار حول المسلّة عدّة مرات متأملة ما حوته هذه الكتابة العجيبة من سنن لتنظيم حياة أجدادها ثم إنزوت لبضعة أمتار لتجلس هي الاخرى على الارض متّكئة على إحدى أرجل تمثال الثور المجنح العملاق الذي ينتصب أمام المسلّة كحارسا جلداً لها لما حوته من قدسيّة أزلية.
أحاط أشور خديه بكفيه محدِّقا بدقائق تلك المسلّة العريقة مستحضراً بمخيلته مدينة بابل، شعبها، كهنتها وملوكها، كيف أجادوا بنبغهم لتنوير الانسان ونقله من حياة البداوة الى التحضّر والرقيّ. تذكّر كيف سطّروا على الحجارة مسيرة تطور الانسان قبل ألاف السنين وكيف نقش أجداده على تلك الالواح حياتهم اليومية، أمعن النظر في دقائق الكتابة المسمارية ثم حوّل ناظريه الى ترجمة ما كتب على ذلك الحجر الاسود ليجهش ببكاء عميق متذكراً كيف كان القانون والنظام يسودان في ذلك الزمن واليوم وبعد ألاف السنين تسود البلاد شريعة الغاب وتفتك بالعباد وحوش خلت قلوبهم من الرحمة.
أدركت عشتار كل ماكان يجول بخاطر حبيبها أشور فنهضت لترى شموخ ذلك الثور الذي جمع رموز الحكمة برأسه والسرعة بخفة جناحيه والقوة بجسمه العملاق ثم إقتربت من زوجها لتواسيه والدموع تسيل على خدّيها الورديين متألمة هي الاخرى لما أصاب شعبها وأبناء أمتها من إضطهاد وضعف وتشتت وضياع. جلست بجوار أشور وأحاطته بذراعها الايمن والامل يملأ قلبها والتصميم يشدّ كيانها قائلة: إنهض يا حبيبي فالبكاء على الاطلال لا يجدي نفعا، لقد أبدع أجدادنا في العطاء لصقل حياة الانسان وسيخلّدون مدى الدهر لكن ما يتوجّب علينا نحن أحفادهم هو كيف نصون ميراثهم ونغنيه، على عاتقنا يقع واجب مقدّس ألا وهو إكمال رسالتهم الانسانية بمحاربة كل عوامل إنقراض شعبنا المعطاء، إنهض وكما وعدنا الله والناس بالحب يوم زواجنا هكذا يجب أن ننذر نفسينا لتوحيد شعبنا وإبناء أمتنا، فالوحدة هي الكفيلة بعدم إنقراضنا.
وقف الشيخ سنحاريب الذي تجاوز الثمانين من عمره مرتكزا على عكازته مراقبا حركات كلا الزوجين بتأمل عميق بعدما سبقهم الى تلك القاعة بنصف ساعة، تأمّل شغفهم العميق بالأثار البابلية والأشورية وبعدما علم بسِرّ بكائهما، تيقن بأنهما من بني أمته لدى سماعه يتحدّثان بلغته السريانية، فهو مثلهم هجر العراق قسرا بعدما أمضى أكثر من نصف قرن في تدريس اللغة السريانية لبني قومه واللغة العربية لمواطنيه العراقيين. نسي كل ما فعلته الايام بعنفوان شبابه ولم يتردد بالتقدّم والتعّرف على الشابين أشور وعشتار. رحّب الحبيبان بالشيخ الجليل وتبادلا الحديث معه بمتعة وشوق بعدما أدركا ما يحمله من مشاعر فيّاضة للعراق وكل العراقيين.
أعطى الشيخ سنحاريب عكازته لعشتار مرتكزا بذراعيه على كتفي العروسين محتضنا إياهما كأولاده وسار بهما متنقلا من تحفة أثرية الى أخرى ومن القاعة الاشورية الى البابلية مخاطبا إياهما بكلمات نابعة من جوارحه كأنما أراد بذلك إسماعهما وصيته الاخيرة قبل الرحيل فقال:
أولادي الاعزاء: إنّ شعبنا يمرّ هذه الايام بمرحلة صعبة جدا، فقوى الظلام المرئية وغير المرئية، الظاهرة والمستترة تخطط للنيل من هذا الشعب الاصيل الطيب للإسراع في إنقراضه، لقد تمادوا في نهب الخيرات وزرع الشتات بين أبناء دجلة والفرات، فقد حاك المغرضون حروبا وحشية ومؤمرات دنيئة غير إنسانية في بلدنا الحبيب العراق أدّت الى قتل ألاف الابرياء وتشريد الملايين لكي ننصهر وننقرض، بإسم الحرية زرعوا بيننا بذور الفتنة والفرقة لنتناحر. نهبوا خيراتنا ودمّروا ركائر إقتصادنا، سرقوا بوضح النهار كنوز أجدادنا الاثرية وتحفنا الخالدة، حرقوا روائع المخطوطات القديمة التي سطرت مسيرة الانسان وتطوره فوق أرض بلاد النهرين المقدّسة، فجّروا كنائسنا ومعالمنا لطمس هويتنا القومية والدينية، فجعلوا من بقايا بابل القديمة ثكنة عسكرية ومن كلية بابل الحديثة معسكرا لهم ولم يحرّكوا ساكنا للجرائم البشعة الوحشية التي تقترف بحق شعبنا كل يوم في أحياء بغداد ومناطق كثيرة من وطننا الجريح. إنها لعبة قذرة ومدروسة تستهدف صميم كياننا لمسح وجودنا في بلاد النهرين.
لكنني بقدر التشائم الذي ينتابني لمعاينة مايصيب هذه الايام بلدي الحبيب وشعبي الطيب فإنني متفائل من المستقبل الذي أعول النصيب الاكبر في إنقاذه على عاتقكم أنتم شباب شعبي المظلوم، إنني أقرا في عيونكم وأتلمس من مشاعركم ذلك الاندفاع المليء بالإيمان نحو حمل راية الاباء والاجداد الى العلى وذلك بصراخكم بصوت واحد ضدّ إضطهادنا وتهديدنا في ترك ديننا وديارنا في موطن الاجداد، إنني أشدّ على أيديكم في متابعة وصيانة إرثنا الخالد، سيبارك الرب مشروعكم في توحيد صفوفنا وجمع مكوناتنا داخل العراق وخارجه. أحمد الله لأنني أشاهد اليوم أبطالا من أبناء شعبنا مثلكم كرّسوا جلّ حياتهم للوحدتنا والنهوض بهذا الشعب العريق وهذه الامة، إنهم يناضلون دون كلل ولا ملل لبناء وتوحيد مؤسساتنا الثقافية والاجتماعية والدينية وإعانه شعبنا المهجّر من المناطق الساخنة.
أوصيكم أن تعشقوا العراق من شماله الى جنوبه ومن غربه الى شرقه وأن تخلصوا لموطن ابائكم وأجدادكم رغم بعدكم حاليا عنه، إنه معقل جذورنا فإذا إنقطعنا عنها نذبل ونموت، بشروا بالاخوة مع جميع أبنائه وكل أطيافه لتثبتوا أصالتكم فجميعهم شربوا مثلكم من ماء دجلة والفرات، القاصي والداني يعلم جيدا بأنكم انتم ورثة الارض الشرعيين. لستم غرباء ولا دخلاء بل أصلاء. سوف تزول هذه الغمامة السوداء عن سماء العراق بعون الله وسيندحر كل دخيل شرير قدم الى بلدنا لينال من أرضه ويبطش بشعبه. إستعينوا بالحكمة والحلم وليكن العلم والمعرفة سلاحكم وإدّخروا المال ليوم العودة القريبة لتشيدوا مع إخوتكم الاخرين عراق السلام والمحبة.
بعدما أنهى العم سنحاريب كلامه المؤثر، طبع أشور وعشتار قبلة الوفاء على وجنتيه ثم قالا له: نعاهدك على العمل الدؤوب لتحقيق وصيتك، إن ما أوصيتنا به سيكون نصب أعيننا ومنهاج عملنا وسنجاهد في سبيل مدّ جسور المحبة والتأخي بين كافة إخوتنا العراقيين سواء داخل العراق او في بلاد المهجر لنحقق حلمك يا أستاذنا الجليل الذي هو حلمنا الكبير في عراق حرّ موحّد وسعيد.
[ العراق تاريخ طويل من الحضارات البشرية المتعاقبة ]
تمتد جذور تاريخ العراق الطويل الى الحضارات العريقة التي تعاقبت في هذه البلاد من سلالات السومريين والأكديين والبابليين والكلدانيين والأشوريين والأراميين والفرس وغيرهم من أقوام سكنوا المنطقة أو غزوها من الذين قدموا بواكير المعرفة والعلم و الحضارة بنوع متميز واصيل ومبدع.
والعراق هو ارض وادي الرافدين ومهد الحضارات يشغل الجزء الشرقي من الوطن العربي يحده من الشرق ايران ومن الغرب الأردن وسوريا ومن الجنوب السعودية والكويت والخليج العربي ومن الشمال تركيا وهو ملتقى قارة أسيا وأوربا وأفريقيا .
وتبلغ مساحته 438317 كم مربع ويبلغ عدد سكانه حسب احصاء عام 1997 نحو 22.17983 نسمة وتقع العاصمة بغداد في وسطه على جانبي نهر دجلة ومن مدنه الرئيسية البصرة في الجنوب والموصل وأربيل وكركوك في الشمال.
ويتميز المناخ في العراق بحرارته وجفافه صيفا وبرودته وامطاره شتاء ويبلغ معدل الحرارة السنوية فيه .5ر22 درجة مئوية.
اما المناخ في شمال العراق فتغلب عليه كثرة الأمطار وانخفاض درجات الحرارة بينما يتميز مناخ الجنوب بالرطوبة العالية وارتفاع درجات الحرارة صيفا.
وتكون السلاسل الجبلية والهضاب والتلال والسهول والأنهار والوديان والبحيرات معالم السطح الرئيسية في العراق حيث يمتد فيه نهرا دجلة والفرات اللذان منحا العراق القديم اسم بلاد وادي الرافدين واللذان يمران في العراق من شماله الى جنوبه ويلتقيان في الجنوب ليكونا شط العرب في محافظة البصرة.
وشهدت بلاد ما بين النهرين عدد من الحضارات لعل البعض قد اغفلها او تناساها وهي حضارات سومر واكد وبابل وحامورابي والكشيون والاشوريون والكلدانيون والعرب والمسلمون وغيرهم.
وعلى رأس القائمة تأتي الحضارة السومرية والتي تعد من اقدم الحضارات التي عرفها التاريخ .
فمنذ أوائل الألفية الخامسة قبل الميلاد شهد السهل الرسوبي في العراق دلتا الرافدين قفزة نوعية هامة في تاريخ البشرية وهي مرحلة الانتقال من القرى الزراعية الى حياة المدن حيث قامت المدن الأولى مثل أريدو وأور والوركاء.
وفي هذه المدن كانت بدايات التخطيط البشري للسيطرة على الفيضانات وانشاء السدود وحفر القنوات والجداول حتى مر على هذا السهل زمن كانت فيه شبكة القنوات معجزة من معجزات الري بالاضافة الى ابتكارهم الكتابة في عام 3200 قبل الميلاد وعمدوا الى نشرها مؤذنة بقيام اولى المدارس بتاريخ البشرية.
اما الحضارة الاكدية فكان قومها من اقدم الأقوام السامية التي استقرت في دلتا الرافدين وعاشوا منذ اقدم العهود مع السومريين جنبا الى جنب وألت اليهم السلطة في نحو 2350 قبل الميلاد بقيادة زعيمهم سرجون الذي استطاع ان يفرض سيادته على جميع مدن العراق الامر الذي ساعده في بسط نفوذه على بلاد عيلام وسوريا والأناضول والخليج العربي حتى دانت له كل المنطقة وبذلك أسس أول امبراطورية معروفة في التاريخ .
وشهدت العراق في هذا العصر انتعاشا اقتصاديا كبيرا بسبب توسع العلاقات التجارية خاصة في منطقة الخليج العربي وانتظام طرق القوافل منها طريق مهم يصل مدينة أكد عاصمة الامبراطورية التي تقع في وسط العراق بمناجم النحاس في بلاد الأناضول حيث كان ينقل لكي يستعمل في صناعة الأدوات والمعدات الحربية .
اما الحضارة الثالثة التي شهدتها بلاد الرافدين فهي البابلية وحمورابي وبلغ عدد ملوك سلالة بابل والتي تعرف بالسلالة الأمورية أحد عشر ملكا حكموا لمدة ثلاثة قرون .
وفي هذا العصر بلغت حضارة العراق أوجه عظمتها وازدهارها وعمت اللغة البابلية تكلما وكتابة المنطقة كلها وارتقت فيها العلوم والمعارف والفنون واتسعت التجارة اتساعا لا مثيل له في تاريخ المنطقة.
وتوالت الحضارات على تلك الارض حتى بدأ العرب فى التوافد على العراق بعد سقوط الامبراطورية الكلدانية عام 538 قبل الميلاد حيث تعاقبت على حكم بلاد وادي الرافدين عدة سلالات أجنبية منها الأخمينيون والاسكندر المقدوني والسلوقيون والفرثيون والساسانيون .
وفي عهد الملك الساساني يزدجرد الثالث قاد سعد ابن أبي وقاص جيوش التحرير العربية الاسلامية وحرر العراق من سيطرة الساسانيين بعد معركة القادسية الشهيرة في عام 637 ميلادية ثم لاحق جيش يزدجرد الى ايران فكانت واقعة النهاوند في عام 642 ميلادية التي أنكسر فيها الفرس وهرب ملكهم وقتل عام 651 ميلادية وانتهى بذلك الحكم الفارسي الساساني وبدأ العهد الاسلامي العربي.
وكان للعرب قبل الاسلام دويلات وامارات في العراق وبلاد الشام بالاضافة الى دولهم في الجزيرة العربية .
وقد شيدوا مراكز كثيرة للقوافل التجارية عبر الصحارى لاسيما في العهد الفرثي والبيزنطي والساساني التي ما لبثت أن أصبحت مدنا كبيرة
ذات عمارات وحصون وأصبح لها شأن كبير بسبب موقعها على طرق القوافل التجارية والحملات العسكرية بين الدول المتناحرة للسيطرة على المنطقة .
وفي هذه المدن تمازجت الحضارات الفارسية والهيلينية والبيزنطية منصهرة مع حضارة سكانها العرب .
ولعل من أهم مراكز العرب وأقوامها في تلك الفترة الأنباط في البتراء وأل نصرو في الحضر وعرب تدمر والغساسنة في وادي حوران جنوب دمشق والمناذرة التنوخيون واللخميون في الحيرة وقد دام حكمهم حتى الفتح الاسلامي.
اما الحضارة العباسية التي شيدها بنو العباس في العراق فكانت بعد سقوط الخلافة الاموية في الشام متسلمة مشعل الحضارة العربية الاسلامية من بني أمية لتضفي عليه انجازاتها العظيمة مزيدا من الهيبة والجلال ومزيدا من الخير والتقدم للانسانية جمعاء.
واذا كانت حواضر ومدن كبرى قد أسست في العراق في صدر الاسلام مثل الكوفة والبصرة وواسط فان بغداد منارة الحضارة فقد بنيت في عهد الخليفة أبي جعفر المنصور ثاني الخلفاء العباسيين لتكون عاصمة الخلافة.
وفي هذا العصر بلغ العراق أوج تطوره الحضاري وأصبحت مدينة السلام وهو أحد أسماء بغداد حيث كانت ملتقى العلماء والأدباء الذين توافدوا عليها من شتى أقطار الأرض.
أما العمران والتجارة والزراعة فلم يشهد وادي الرافدين عصرا احفل بها من العصر العباسي.
وفي عام 1258 للميلاد انطفأت تلك الشعلة الوهاجة التي أضاءت طريق الانسانية زهاء 500 عام عندما أقبل التتر وعلى رأسهم هولاكو حفيد جنكيز خان واستباح بغداد استباحة لم يشهد لها التاريخ مثيلا بغزوها لها واهداره تاريخ الحضارات باحراقه المكتبات ودور الطباعة والترجمة اسدل بعدها على وادي الرافدين ستار من الظلمة وساد فيه الجهل والفقر والفساد.
وفي القرن السادس عشر الميلادي دخل العثمانيون البلاد وأحكموا سيطرتهم عليها حتى الحرب العالمية الأولى ثم خضع العراق للانتداب البريطاني