مقالات سابقة
يدعي
بعض المتأخرين وقوع الإجماع على تحريم الخروج على الحاكم الظالم، مع أنه
قد ثبت الخلاف بين العلماء سلفاً وخلفاً في مشروعية عزل الحاكم المسلم إذا
وقع في الفسق وارتكب المظالم ودعوى الإجماع في هذه المسالة باطل، لم يقل
به أحد صراحة قبل ابن مجاهد البصري الأشعري شيخ الباقلاني في القرن الرابع
الهجري، ويكفي لمعرفة شهرة الخلاف أنه لم يخلُ مذهب من مذاهب المسلمين من
قائل بجواز الخروج عليه.. فمتى انعقد الإجماع وكيف؟!فإن قيل:
في عصر الصحابة. قلنا: أنتم محجوجون بأمثال عمر وعلي وطلحة والزبير وعائشة
ومعاوية وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وهم من كبار الصحابة، وبأمثال
الحسين بن علي وابن الزبير وأصحاب الحرَّة، وهم من صغار الصحابة (رضي الله
عنهم أجمعين)، فهؤلاء وغيرهم كانوا يرون الخروج على الحاكم في حال جوره أو
اختلال شرط من شروط بيعته.. وقد دلت أقوالهم وأفعالهم على هذا.وإن قيل: انعقد الإجماع بعد عصر الصحابة. قلنا: هذه دعوى عريضة، وتحكم بلا دليل، تنتقض بثلاثة أمور:أحدها:
نقل الخلاف وثبوته بعد عصر الصحابة، وممن ثبت عنه القول بجواز الخروج عامة
من خرج مع ابن الأشعث على عبد الملك بن مروان وواليه الحجاج، كابن أبي
ليلى، والشعبي، وسعيد بن جبير، وغيرهم.. ومن خرج مع زيد بن علي ومحمد بن
الحسن في عصر تابعي التابعين وكأبي حنيفة ومالك في رواية عنه وأحمد بن نصر
الخزاعي وغيرهم كثير كما سنبين من خلال كلام علماء الإسلام وأئمته ممن
أثبت الخلاف.الثانية: اختلاف الأصوليين في وقوع الإجماع بعد عصر الصحابة، فمن قال بوقوعه فهو عنده من الإجماع الظني ودلالته ضعيفة عند الأصوليين.الثالثة:
اختلاف الأصوليين في صحة إجماع أهل العصر على أحد قولي العصر السابق،
وكثير من المحققين يرون أن الأقوال لا تموت بموت قائليها، وأن الإجماع لا
ينعقد إذا سبقه خلاف ومات أحد المخالفين.وسأذكر
فيما يلي طائفة من أقوال الصحابة الكرام وأئمة الإسلام وعلمائه الأعلام
(رحمة الله عليهم) في ثبوت الخلاف في مسألة الخروج على الحاكم الجائر
ليعلم القائل أن الخلاف في المسألة ليس خلافًا في قطعيات الشريعة ولكنه في
مسألة فروعية فقهية، لا يترتب على القول بأحد القولين تضليل للمخالف أو
وصمه بالبغي وفكر الخوارج، مع تأكيدي على ضرورة انتهاج الطرق السلمية في
الثورة على الأنظمة الظالمة، لأنها آتت ثمارها وظهرت بركتها، وذلك من أوسع
أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:1- خطب
عمر -رضي الله عنه- فقال: "إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم، ولا
ليأخذوا أموالكم، فمن فعل ذلك به فليرفعه إليَّ أقصَّه منه". فقال عمرو بن
العاص: "أرأيت لو أن رجلاً أدب بعض رعيته أتقصه منه". فقال عمر: "أي والذي
نفسي بيده، ألا أقصه وقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقصَّ من
نفسه" [رواه أبو داود في السنن برقم 4537].2- روى
ابن جرير الطبري في تاريخه من حديث موسى بن عقبة المؤرخ عن عمر –رضي الله
عنه- قوله: "فلن يعجز الناس أن يولوا رجلاً منهم فإن استقام اتبعوه وإن
جنف قتلوه" فقال طلحة: "وما عليك لو قلت إن تعوج عزلوه" فقال: "لا القتل
أنكل لمن بعده" [تاريخ الطبري 2/572، ط دار الكتب العلمية- بيروت].3- روى
مسلم في صحيحه (أَنَّهُ لَمَّا كان بين عبد اللَّهِ بن عَمْرٍو وَبَيْنَ
عَنْبَسَةَ بن أبي سُفْيَانَ ما كان، تَيَسَّرُوا لِلْقِتَالِ [وذلك أن
عنبسة بن أبي سفيان – أمير الطائف لأخيه معاوية- أراد أن يأخذ قطعة من أرض
عبد الله بن عمرو بن العاص يقال لها (الوهط) فجمع عبد الله ولده وعبيده
واستل سيفه] فَرَكِبَ خَالِدُ بن الْعَاصِ إلى عبد اللَّهِ بن عَمْرٍو
فَوَعَظَهُ خَالِدٌ، فقال عبد اللَّهِ بن عَمْرٍو: "أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ e قال: ((من قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ))" صحيح مسلم برقم 141 ج1ص124.4- وقال
العلامة أبو بكر الجصَّاص من الحنفية: "وكان مذهبه [أي: أبو حنيفة]
مشهورًا في قتال الظلمة وأئمة الجور؛ ولذلك قال الأوزاعي: احتملنا أبا
حنيفة على كل شيء حتى جاءنا بالسيف --يعني قتال الظلمة- فلم نحتمله. وكان
من قوله: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض بالقول فإن لم يؤتمر
له فبالسيف على ما روي عن النبي e وسأله إبراهيم الصائغ -وكان من فقهاء
أهل خراسان ورواه الأخبار ونساكهم- عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
فقال: هو فرض. وحدَّثه بحديث عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي e قال ((أفضل
الشهداء حمزة بن عبدالمطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره بالمعروف ونهاه
عن المنكر فقتل))، فرجع إبراهيم إلى (مرو) وقام إلى أبي مسلم صاحب الدولة
فأمره ونهاه وأنكر عليه ظلمه وسفكه الدماء بغير حق فاحتمله مراراً ثم
قتله، وقضيته في أمر زيد بن علي مشهورة، وفي حمله المال إليه وفتياه الناس
سرًا في وجوب نصرته والقتال معه، وكذلك أمره مع محمد وإبراهيم ابني
عبدالله بن حسن. وقال لأبي إسحق الفزاري حين قال له: لم أشرت على أخي
بالخروج مع إبراهيم حتى قتل قال: مخرج أخيك أحب إلي من مخرجك. وكان أبو
إسحق قد خرج إلى البصرة وهذا إنما أنكره عليه أغمار أصحاب الحديث الذين
بهم فُقِد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تغلَّب الظالمون على أمور
الإسلام فمن كان هذا مذهبه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كيف يرى
إمامة الفاسق" [أحكام القرآن للجصَّاص 1/86-87 ط دار إحياء التراث العربي
– بيروت -1405ه].5- وقال
ابن عبد البر الأندلسي المالكي: " قوله: ((ألَّا ننازع الأمر أهله))، فقال
قائلون: أهله أهل العدل، فهؤلاء لا ينازعون لأنهم أهله، أما أهل الجور
والظلم فليسوا بأهل له، واحتجوا بقوله -تعالى-: {لا ينال عهدي الظالمين}،
ذهب إلى هذا طائفة من السلف الصالح، وتبعهم خلف من الفضلاء والعلماء من
أهل المدينة والعراق، وبهذا خرج ابن الزبير والحسين بن علي على يزيد وخرج
خيار أهل العراق وعلماؤهم على الحجاج وخرج أهل المدينة على بني أمية في
الحرَّة..." [الاستذكار 5/16؛ والتمهيد 23/278]، ومقصودنا إثبات الخلاف في
المسألة من كلامه، وإلا فهو يرى رأي جمهور المتأخرين من عدم الخروج على
الحاكم الجائر.6- وقال
القرطبي المالكي في تفسير قوله -تعالى-: {قال لا ينال عهدي الظالمين}:
"استدل جماعة من العلماء بهذه الآية على أن الإمام يكون من أهل العدل
والإحسان والفضل مع القوة على القيام بذلك وهو الذي أمر النبي صلى الله
عليه وسلم ألا ينازعوا الأمر أهله على ما تقدم من القول فيه فأما أهل
الفسوق والجور والظلم فليسوا له بأهل؛ لقوله تعالى {لا ينال عهدي
الظالمين} ولهذا خرج ابن الزبير والحسين بن علي رضي الله عنهم وخرج خيار
أهل العراق وعلماؤهم على الحجاج وأخرج أهل المدينة بني أمية وقاموا عليهم
فكانت الحرة التي أوقعها بهم مسلم بن عقبة والذي عليه الأكثر من العلماء
أن الصبر على طاعة الإمام الجائر أولى من الخروج عليه..." [تفسير
القرطبي ج2/ص108-109 ط دار الشعب – القاهرة]. فالقرطبي وإن كان يرى عدم
الخروج على الظلمة إلا أنه لم يدع الإجماع بل كان صريحاً في نقل الخلاف.7- وقال
القُرطبي في تفسيره -أيضًا-: " قال ابن خويز منداد: وكل من كان ظالماً لم
يكن نبيًا ولا خليفة ولا حاكمًا ولا مفتيًا ولا إمام صلاة ولا يقبل عنه ما
يرويه عن صاحب الشريعة ولا تقبل شهادته في الأحكام غير أنه لا يُعزل بفسقه
حتى يعزله أهل الحل والعقد وما تقدم من أحكامه موافقاً للصواب ماضٍ غير
منقوض، وقد نص مالك على هذا في الخوارج والبُغاة أن أحكامهم لا تنقض إذا
أصابوا بها وجهًا من الاجتهاد ولم يخرقوا الإجماع أو يخالفوا النصوص" [تفسير القرطبي ج2/ص109 ط دار الشعب – القاهرة]. 8- وقال
ابن العربي الأندلسي المالكي: "المسألة التاسعة: قال علماؤنا في رواية
سحنون إنما يقاتل مع الإمام العدل سواء كان الأول أو الخارج عليه فإن لم
يكونا عدلين فأمسك عنهما إلا أن تراد بنفسك أو مالك أو ظلم المسلمين فادفع
ذلك.المسألة
العاشرة: لا نقاتل إلا مع إما عادل يقدمه أهل الحق لأنفسهم ولا يكون إلا
قرشياً وغيره لا حكم له إلا أن يدعو إلى الإمام القرشي قاله مالك؛ لأن
الإمامة لا تكون إلا لقرشي. وقد روى ابن القاسم عن مالك إذا خرج على
الإمام العدل خارجٌ وجب الدفع عنه مثل عمر بن عبد العزيز فأما غيره فدعه
ينتقم الله من ظالم بمثله ثم ينتقم من كليهما" [أحكام القرآن لابن العربي
4/153-154 ط دار الفكر - بيروت].
9- وقال
الماوردي البصري الشافعي: "فأما الجرح في عدالته وهو الفسق فهو على ضربين:
أحدهما: ما تابع فيه الشهوة. والثاني: ما تعلَّق فيه بشبهة، فأما الأول
منهما فمتعلق بأفعال الجوارح وهو ارتكابه للمحظورات وإقدامه على المنكرات
تحكيمًا وانقياداً للهوى فهذا فسق يمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها؛
فإذا طرأ على من انعقدت إمامته خرج منها، فلو عاد إلى العدالة لم يعد إلى
الإمامة إلا بعقد جديد" [الأحكام السلطانية ص18 ط دار الكتب العلمية -
بيروت].
10-
قال الإمام الماوردي: "فأما الجرح في عدالته وهو الفسق فهو على ضربين:
أحدهما: ما تابع فيه الشهوة. والثاني: ما تعلَّق فيه بشبهة، فأما الأول
منهما فمتعلق بأفعال الجوارح وهو ارتكابه للمحظورات وإقدامه على المنكرات
تحكيمًا وانقياداً للهوى فهذا فسق يمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها؛
فإذا طرأ على من انعقدت إمامته خرج منها، فلو عاد إلى العدالة لم يعد إلى
الإمامة إلا بعقد جديد" [الأحكام السلطانية، ص18 ط دار الكتب العلمية -
بيروت].
11-
و قال محيي الدين النووي الشافعي: " قال القاضي عياض: أجمع العلماء على
أن الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل، قال: وكذا
لو ترك إقامة الصلوات والدعاء إليها.. قال: وكذلك عند جمهورهم البدعة..
قال: وقال بعض البصريين تنعقد له وتستدام له؛ لأنه متأول. قال القاضي: فلو
طرأ عليه كفر وتغيير للشرع أو بدعة خرج عن حكم الولاية وسقطت طاعته ووجب
على المسلمين القيام عليه وخلعه ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك فإن لم يقع
ذلك الا لطائفة وجب عليهم القيام بخلع الكافر..." [شرح مسلم للنووي
12/229، ط2 دار إحياء التراث العربي-بيروت-1392ه].
12-
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي في ترجمة الحسن بن حي: "وقولهم: كان
يرى السيف يعني كان يرى الخروج بالسيف على أئمة الجور وهذا مذهب للسلف
قديم لكن استقر الأمر على ترك ذلك لما رأوه قد أفضى إلى أشد منه" [تهذيب
التهذيب 2/250 ط دار الفكر – بيروت 1404ه].
13-
وقال -أيضًا-: "ونقل ابن التين عن الداودي قال: الذي عليه العلماء في
أمراء الجور أنه إن قُدِر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب، والا فالواجب
الصبر وعن بعضهم لا يجوز عقد الولاية لفاسق ابتداء فان أحدث جورا بعد أن
كان عدلًا فاختلفوا في جواز الخروج عليه والصحيح المنع إلا أن يكفر فيجب
الخروج عليه" [فتح الباري ج13/ص8 ط دار المعرفة -بيروت].
14-
وقال الزبيدي الشافعي: " وأما الفسق فقد اختلف فيه على قولين: فالذي عليه
الجمهور أنه لا يعزل به لأن ذلك قد تنشأ عنه فتنة هي أعظم من فسقه وذهب
الشافعي في القديم إلى أنه ينعزل، وعليه اقتصر الماوردي في الأحكام
السلطانية. وقال إمام الحرمين: إذا جار في وقت وظهر ظلمه وغشه ولم ينزجر
عن سوء صنعه بالقول فلأهل الحل والعقد التواطؤ على رفعه وعزله ولو شهر
السلاح ونصب الحروب". [إتحاف السادة المتقين 2/233].
15-
وقال المرداوي الحنبلي: "فَمَنْ ثَبَتَتْ إمَامَتُهُ بِإِجْمَاعٍ أو
بِنَصٍّ أو بِاجْتِهَادٍ أو بِنَصِّ من قَبْلَهُ عليه وَبِخَبَرٍ
مُتَعَيِّنٍ لها حَرُمَ قِتَالُهُ وَكَذَا لو قَهَرَ الناس بِسَيْفِهِ حتى
أَذْعَنُوا له وَدَعَوْهُ إمَامًا - قَالَهُ في الْكَافِي وَغَيْرِهِ -
وَذَكَرَهُ [أي: ابن رُزَين] في (الرِّعَايَةِ) رِوَايَةً وَقَدَّمَ
أَنَّهُ لَا يَكُونُ إمَامًا بِذَلِكَ وَقَدَّمَ روايتين في الْأَحْكَامِ
السُّلْطَانِيَّةِ" ثم قال: "وَجَوَّزَ ابن عَقِيلٍ وابن الْجَوْزِيِّ
الْخُرُوجَ على إمَامٍ غَيْرِ عَادِلٍ وَذَكَرَا خُرُوجَ الْحُسَيْنِ على
يَزِيدَ لِإِقَامَةِ الْحَقِّ وهو ظَاهِرُ كَلَامِ بن رَزِينٍ على ما
تَقَدَّمَ" [الإنصاف في مسائل الخلاف 10/310-311].
16- وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي: "وقد
ذكرنا حديث ابن مسعود الذي فيه ((يخلف من بعدهم خلوف فمن جاهدهم بيده فهو
مؤمن))... الحديث، وهذا يدل على جهاد الأمراء باليد وقد استنكر الإمام
أحمد هذا الحديث في رواية أبي داود وقال: هو خلاف الأحاديث التي أمر رسول
الله e فيها بالصبر على جور الأئمة. وقد يجاب عن ذلك بأن التغيير باليد لا
يستلزم القتال وقد نص على ذلك أحمد أيضًا في رواية صالح فقال: التغيير
باليد ليس بالسيف والسلاح فحينئذ جهاد الأمراء باليد أن يزيل بيده ما
فعلوه من المنكرات مثل أن يريق خمورهم أو يكسر آلات اللهو التي لهم أو نحو
ذلك أو يبطل بيده ما أمروا به من الظلم إن كان له قدرة على ذلك وكل ذلك
جائز وليس هو من باب قتالهم ولا من الخروج عليهم" [جامع العلوم والحكم 1/322 ط7 مؤسسة الرسالة- بيروت-1417ه/1997م].
17-
قال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب النجدي الحنبلي: " وقد اختلف
أهل السنة والجماعة في هذه المسألة وكذلك أهل البيت، فذهبت طائفة من أهل
السنة –رضي الله عنهم- من الصحابة فمن بعدهم كسعد بن أبي وقاص وأسامة بن
زيد ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن عمر –رضي الله عنهم- وغيرهم، وهو قول
أحمد بن حنبل وجماعة من أصحاب الحديث إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر باللسان إن قدر على ذلك، وإلا فبالقلب فقط، ولا يكون باليد وسل
السيوف والخروج على الأئمة وإن كانوا أئمة جور.
وذهبت
طائفة أخرى من الصحابة –رضي الله عنهم- ومن بعدهم من التابعين ثم الأئمة
بعدهم إلى أن سل السيوف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب إذا لم
يقدر على إزالة المنكر إلا بذلك، وهو قول علي بن أبي طالب وكل من معه من
الصحابة –رضي الله عنهم- كعمار بن ياسر وابن عباس وأبي سعيد الخدري
وغيرهم، وهو قول أم المؤمنين ومن معها من الصحابة كعمرو بن العاص والنعمان
بن بشير وأبي العادية السلمي وغيرهم، وهو قول عبد الله بن الزبير والحسين
بن علي، وهو قول كل من قام على الفاسق الحجاج كعبد الرحمن بن أبي ليلى
وسعيد بن جبير وأبي البختري الطائي وعطاء السلمي والحسن البصري والشعبي
ومن بعدهم كالناسك الفاضل عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر
وعبيد الله بن حفص بن عاصم وسائر من خرج مع محمد بن عبد الله بن الحسين بن
الحسن بن علي بن أبي طالب ومع أخيه إبراهيم بن عبد الله وهشيم بن بشير
والوراق وغيرهم " [جواب أهل السنة ص70-71].
18-
وقال ابن حزم الأندلسي الظاهري: "وذهبت طوائف من أهل السنة وجميع المعتزلة
وجميع الخوارج والزيدية إلى أن سل السيوف في الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر واجب إذا لم يمكن دفع المنكر إلا بذلك، قالوا: فإذا كان أهل الحق
في عصابة يمكنهم الدفع ولا ييأسون من الظفر ففرض عليهم ذلك، وإن كانوا في
عدد لا يرجون لقلتهم وضعفهم بظفر كانوا في سعة من ترك التغيير باليد. وهذا
قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكل من معه من الصحابة وقول أم المؤمنين
عائشة رضي الله عنها وطلحة والزبير وكل من كان معهم من الصحابة وقول
معاوية وعمرو والنعمان بن بشير وغيرهم ممن معهم من الصحابة رضي الله عنهم
أجمعين وهو قول عبد الله بن الزبير ومحمد والحسن بن علي وبقية الصحابة من
المهاجرين والأنصار والقائمين يوم الحرة رضي الله عن جميعهم أجمعين وقول
كل من أقام على الفاسق الحجاج ومن والاه من الصحابة رضي الله عنهم جميعهم
كأنس بن مالك وكل من كان ممن ذكرنا من أفاضل التابعين كعبد الرحمن ابن أبي
ليلى وسعيد بن جبير وابن البحتري الطائي وعطاء السلمي الأزدي والحسن
البصري ومالك بن دينار ومسلم بن بشار وأبي الحوراء والشعبي وعبد الله بن
غالب وعقبة بن عبد الغافر وعقبة بن صهبان وماهان والمطرف بن المغيرة ابن
شعبة وأبي المعد وحنظلة بن عبد الله وأبي سح الهنائي وطلق بن حبيب والمطرف
بن عبد الله ابن الشخير والنصر بن أنس وعطاء بن السائب وإبراهيم بن يزيد
التيمي وأبي الحوساء وجبلة بن زحر وغيرهم، ثم من بعد هؤلاء من تابعي
التابعين ومن بعدهم كعبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر وكعبد
الله بن عمر ومحمد بن عجلان ومن خرج مع محمد بن عبد الله بن الحسن وهاشم
بن بشر ومطر ومن خرج مع إبراهيم بن عبد الله وهو الذي تدل عليه أقوال
الفقهاء كأبي حنيفة والحسن بن حيي وشريك ومالك والشافعي وداود وأصحابهم
فإن كل من ذكرنا من قديم وحديث إما ناطق بذلك في فتواه وأما فاعل لذلك بسل
سيفه في إنكار ما رآه منكرا." [الفِصَل في الملل والنحل 4/132]. ثم قال: "
قال أبو محمد: والواجب أن وقع شيء من الجور وإن قل أن يكلم الامام في ذلك
ويمنع منه فان امتنع وراجع الحق واذعن للقود من البشرة أو من الاعضاء
ولإقامة حد الزنا والقذف والخمر عليه فلا سبيل إلى خلعه وهو إمام... فإن
امتنع من إنفاذ شيء من هذه الواجبات عليه ولم يراجع وجب خلعه واقامة غيره
ممن يقوم بالحق لقوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على
الإثم والعدوان} ولا يجوز تضييع شيء من واجبات الشرائع وبالله تعالى
التوفيق". [الفصل في الملل والنحل ج4 ص134-135].
19-
وقال ابن الوزير اليماني أحد كبار مجتهدي المذهب الزيدي: "بيان أن مـن
منـع الخروج على الظلمة استثنى مـن ذلك مـن فَحُش ظلمه وعظمت المفسدة
بولايته، مثل يزيد بن معاوية، والحجاج بن يوسف، وأنه لم يقل أحد ممن يعتد
به بـإمامة من هذا حاله، وإن ظن ذلك من لم يبحث من ظواهر بعض إطلاقهم،
فقـد نصوا على بيان مرادهم ، وخصوا عموم ألفاظهم ، ويظهر ذلك بذكر ما أمكن
من نصوصهم .." إلى أن قال: "ومما يدل على ذلك أنه لما ادعى أبو عبد الله
بن مجاهد الإجماع على تحريم الخروج على الظلمة ، ردوا ذلك عليه وقبحوه،
وكان ابن حزم على تعصبه لبني أمية ممن رد عليه ، فكيف بغيره؟ واحتج عليه
ابن حزم بخروج الحسين بن علي -عليهما السلام- على يزيد بن معاوية، وبخروج
ابن الأشعث ومن معه من كبار التابعين على الحجاج ...فقال ابن حزم ما لفظه:
ورأيت لبعض من نصَّب نفسه للإمامة والكلام في الدين فصولاً ذكر فيها
الإجماع، فأتى فيها بكلام لو سكت عنه لكان أسلم له في أخراه، بل لعل الخرس
كان أسلم له، وهو ابن مجاهد البصري المتكلم الطائي لا المقرئ، فإنه ذكر
فيما ادعى فيه الإجماع: أنهم أجمعوا على أنه لا يخرج على أئمة الجور،
فاستعظمتُ ذلك، ولعمري إنه لعظيم أن يكون قد علم أن مخالف الإجماع كافر،
فُيلقي هذا إلى الناس، وقد عُلم أن أفاضل الصحابة وبقية السلف يوم
الحـرَّة خرجوا على يزيد بن معاوية، وأن ابن الزبير ومن تابعه من خيار
الناس خرجوا عليه، وأن الحسين بن علي ومن تابعه من خيار المسلمين خرجوا
عليه- أيضاً- رضي الله عن الخارجين عليه، ولعن قتلتهم، وأن الحسن البصري
وأكابر التابعين خرجوا على الحجاج بسيوفهم. أترى هؤلاء كفروا؟ بل والله من
كفرهم، فهو أحق بالكفر منهم، ولعمري لوكان اختلافاً يخفى لعذرناه، ولكنه
مشهور يعرفه أكثر من في الأسواق، والمخدَّرات في خدورهن لاشتهاره، ولكن
يحق على المرء أن يخطم كلامه ويزُمـه إلا بعد تحقيق وميز، ويعلم أن الله
تعالى بالمرصاد، وأن كلام المرء محسوب مكتوب مسؤول عنه يوم القيامة
مُقلداً أجر من اتبعه عليه أو وزره. انتهى بحروفه وقرره الفقيه جمال الدين
الريمي، ولم يعترضه .
فإذا كان هذا كلام من نصوا على أنه يتعصب لبني
أمية في يزيد بن معاوية والخارجين عليه، فكيف بمن لم يُوصم بعصبية البتة،
وليس يمكن أن يزيد الشيعي المحتد على مثل هـذا .
وممن أنكر على ابن
مجاهد دعوى الإجماع في هذه المسألة، القاضي العلامة عياض المالكي، قال:
وردَّ عليه بعضهم هذا بقيام الحسين بن علي رضي الله عنه وابن الزبير وأهل
المدينة على بني أمية وقيام جماعة عظيمة من التابعين والصدر الأول على
الحجاج مع ابن الأشعث.
وتأول هذا القائل قوله: " ألا ننـازع الأمـر
أهلــه " على أئمة العـدل. قال عياض : وحجـة الجمهور أن قيامهم على الحجاج
ليس بمجـرد الفسق ، بل لما غيّـر مـن الشرع ، وأظهر مـن الكفر . انتهى
كلامه. وفيه بيان اتفاقهم على تحسين ما فعله الحسين -عليه السلام- وأصحابه
وابن الأشعث وأصحابه وأن الجمهور قصروا جواز الخروج على من كان على مثل
تلك الصفة، وأن منهم من جوز الخروج على كل ظالم، وتأول الحديث الذي فيه :
((وألا ننـازع الأمــر أهلـه)) على أئمـة العــدل . وفيـه أنهم اتفقوا على
الاحتجاج بفعل الحسين -عليه السلام- ، ولكن منهم من احتج على جواز الخروج
على الظلمة مطلقاً، ومنهم من قصره على من فَحُش ظلمه وغيَّر الشرع ، ولم
يقل مسلم منهم ولا من غيرهم: إن يزيد مصيب والحسين باغ إلا ما ألقاه
الشيطان على السيد، ولا طمع الشيطان بمثل هذه الجهالة أحداً قبل السيد ."
[العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم لابن الوزير اليماني
(8/75-78) ط3 مؤسسة الرسالة 1415ه/1994م].
20-
وقال الشوكاني أحد كبار مجتهدي المذهب الزيدي: "لا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ
أَنْ يَحُطَّ على من خَرَجَ من السَّلَفِ الصَّالِحِ من الْعِتْرَةِ
وَغَيْرِهِمْ على أَئِمَّةِ الْجَوْرِ فَإِنَّهُمْ فَعَلُوا ذلك
بِاجْتِهَادٍ منهم وَهُمْ أَتْقَى لِلَّهِ وَأَطْوَعُ لِسُنَّةِ رسول
اللَّهِ من جَمَاعَةٍ مِمَّنْ جاء بَعْدَهُمْ من أَهْلِ الْعِلْمِ
وَلَقَدْ أَفْرَطَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ كَالْكَرَّامِيَّةِ وَمَنْ
وَافَقَهُمْ في الْجُمُودِ على أَحَادِيثِ الْبَابِ حتى حَكَمُوا بِأَنَّ
الْحُسَيْنَ السِّبْطَ -رضي الله عنه- وَأَرْضَاهُ بَاغٍ على الْخِمِّيرِ
السِّكِّيرِ الْهَاتِكِ لِحُرُمِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ يَزِيدَ بن
مُعَاوِيَةَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَيَالَلَّهِ الْعَجَبُ من مَقَالاتٍ
تَقْشَعِرُّ منها الْجُلُودُ وَيَتَصَدَّعُ من سَمَاعِهَا كُلُّ
جُلْمُودٍ." [نيل الأوطار 3/362 ط دار الجيل-بيروت-1973م].
وهذه
الأقوال لعلماء الإسلام على اختلاف مذاهبهم وعصورهم واضحة في نقل الخلاف
وإثباته، ولم نقصد الاستقصاء، فكيف يزعم أحد ثبوت الإجماع واستقراره وينسب
المخالف إلى الضلال والبغي؟!.
21-
سُئل الشيخ الألباني من العلماء المعاصرين عن البيعة للحكومات الحالية
فقال: "من قال لك أن هناك بيعة اليوم، البيعة لا تكون إلا للخليفة الذي
يختاره المسلمون جميعاً" فسئل: هل يجوز تعداد الحكام والأئمة فقال: (ما
يجوز.. ما يجوز). [سلسلة الهدى والنور، الأشرطة: 58، 200، 212، 229، 288،
337، 390]. وكان الشيخ يرى عدم الخروج على هذه الأنظمة بالسلاح بسبب ضعف
المسلمين مما يسبب سفك دمائهم واستباحة حرماتهم.
just_f