[b style="font-weight: bold;"]
[/b]
[b style="font-weight: bold;"]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
* فإن حماية الناشئة من الانحراف مطلب ضروري حث الشارع عليه في قوله عزَّ وجلَّ: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ?.
* وأمر به النبي ? في أحاديث كثيرة سيمر بك جملة منها من خلال هذا البحث المختصر.
ولأهمية الموضوع ولما للأبوين من دور بارز في حماية أبنائهم من الانحراف رأيت أن أكتب فيه هذه الورقات، سائلاً المولى عزَّ وجلَّ أن ينفع بها وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب.
وقد قسمته إلى الفصول الآتية:
الفصل الأول: دور الأبوين في غرس الصلاح والخير في نفوس أبنائهم.
الفصل الثاني: دور تنمية التربية والمراقبة الذاتية في نفوس الأبناء لمعرفة الضار من النافع.
الفصل الثالث: دور الأبوين في اختيار الأصحاب لأبنائهم ومعرفة من يجالسون.
الفصل الرابع: ضريبة انشغال الأبوين وغيابهم له ضريبة في تصرف أبنائهم.
الفصل الخامس: الأساليب النافعة في تربية الأبناء وحفظهم من الانحرافات الفكرية.
* * * *
الفصل الأول
دور الأبوين في غرس الصلاح والخير
في نفوس أبنائهم
للأبوين دور بارز في صلاح الأبناء واستقامتهم – بعد توفيق الله عزَّ وجلَّ – ذلك لأنهما اللَّبنة الأولى التي ينشأ الطفل فيها منذ ولادته، ويتلقى منهما التوجيه والرعاية.
* ولذا حث الشارع على تكوين أسرة مسلمة بدءًا باختيار الزوجة الصالحة، قال النبي ?: «تُنكح المرأة لأربع لمالها، ولحسبها، ولجماله، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك» [متفق عليه].
* فخير ما تنكح عليه المرأة دينها، وصلاحها، وتقواها، وإنابتها إلى ربها ومولاها، فمثل هذه تقرُّ العين بها، وتؤتمن على نفسها ومال زوجها، وتربية أولاده.
* ثم باختيار الاسم الحسن للابن، فإن للاسم الحسن تأثير في مسماه، قال ابن القيم رحمه الله: «فإن صاحب الاسم الحسن قد يستحي من اسمه، وقد يحمله اسمه على فعل ما يناسبه وترك ما يضاده، ولهذا ترى أكثر السفل أسماؤهم تناسبهم، وأكثر العلية أسماؤهم تناسبهم»( ).
* ثم بالعقيقة عنه، فعن سمرة بن جندب ? قال: قال رسول الله ?: «كل غلام مرتهن بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه، ويحلق رأسه ويُسمى» رواه أهل السنن بإسناد صحيح.
وهذه العقيقة جعلها الله تعالى سببًا لفك رهان المولود من الشيطان الذي يعلق به من حين خروجه إلى الدنيا وطعنه في خاصرته.
ويتلخص دور الأبوين فيما يلي:
أولاً: تعليق أبنائهم بالله عزَّ وجلَّ وتوحيده وتعظيمه:
تحقيقًا للفطرة التي فطروا عليها، قال ?: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» [متفق عليه].
* معناه: أن كل مولود من البشر إنما يولد في مبدأ الخلقة وأصل الجبلة على الفطرة السليمة، والطبع المتهيئ لقبول الدين، فلو ترك عليها وخُلِّي سبيله لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها، لأن هذا الدين موجود حُسنه في العقول، وبشره في النفوس، وإنما يعدل عنه من يعدل إلى غيره ويؤثره عليه لآفة من آفات فساد النشوء والتقليد، فلو سلم المولد من تلك الآفات لم يعتقد غيره ولم يختر عليه ما سواه»( ).
* فيؤكد الأبوان هذه الفطرة بتقريرها، بأن الله هو الذي خلقهم ورزقهم ودفع عنهم الشرور والنقم، وأمدهم بالنعم، وهي متعددة، والتي منها ما سخَّره لهم من الطعام والشراب والمركب والمسكن، وكذا ما وهبه لهم من نعمة البصر، والسمع والشم والتذوق، ونعمة العافية، وما خلقه في الكون من جبال وسهول وأرض وسماء، وما فيها من عجائب المخلوقات.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ففي كل ما خلقه الله إحسان إلى عباده يحمد عليه حمد شكر، وله فيه حكمة تعود إليه، يستحق لأجلها أن يحمد عليه حمدًا لذاته»( ).
* وتذكيرهم أيضًا بنعمة الوالدين، فإن لذلك أثرًا بالغًا في نفوسهم، وحينئذ يحسون بشعور يغمر قلوبهم تجاه الله عزَّ وجلَّ، وهنا يكون دور الأبوين في توجيه الأولاد نحو الطريق الصحيح، بعد معرفة الخالق وتعليقهم به، وتذكيرهم بنعمة التوحيد عليهم.
ثانيًا: حثهم على فعل العبادات وتحبيبهم لها وتعليمهم إياها.
* لا سيما الصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي ألصق شعيرة دينية تلازم الإنسان المسلم طول حياته ما دام مكلفًا حاضر العقل، وفيها فوائد عدة، فهي مجلبةٌ للرزق، حافظة للصحة، دافعة للأذى، مطردة للأدواء، مقوِّية للقلب، منشِّطة للجوارح، شارحة للصدر، مغذية للروح، حافظة للنعمة، دافعة للنقمة، جالبة للبركة، مبعدة من الشيطان مقربة من الرحمن( )، فيذكِّر الأولاد بهذه الفوائد ترغيبًا لهم على فعلها ولو قبل البلوغ ليعتادوها بعده، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ? قال: قال رسول الله ?: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع» [رواه أبو داود بإسناد حسن].
* قال البيهقي في «السنن الكبرى»: «باب ما على الآباء والأمهات من تعليم الصبيان أمر الطهارة والصلاة» ثم ساق بسنده الحديث المتقدم.
* وكذا الصوم إذا أطاقوه، قال ابن حجر رحمه الله: «واستحب جماعة من السلف منهم ابن سيرين والزهري، وقال به الشافعي أنهم يؤمرون به للتمرين عليه إذا أطاقوه»( ).
* وتعليمهم القرآن الكريم، فعن عثمان بن عفان ? قال: قال رسول الله ?: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» [رواه البخاري].
* وروى ابن أبي الدنيا عن عبد الله بن عيسى – أحد التابعين – قال: «لا تزال هذه الأمة بخير ما تعلم ولدانها القرآن»( ).
* قال السيوطي رحمه الله: «تعليم الصبيان القرآن أصل من أصول الإسلام، فينشئون على الفطرة، ويسبق إلى قلوبهم أنوار الحكمة قبل تمكين الأهواء منها، وسوادها بأكدار المعصية والضلال»( ).
وقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يتسابقون إلى ذلك فها هو ابن عباس رضي الله عنهما يقول – مفتخرًا بما مَنّ الله عليه -: «توفي رسول الله ? وأنا ابن عشر سنين، وقد قرأت المحكم» وهو من سورة الحجرات، [رواه البخاري].
* ونقل الخطيب البغدادي عن إبراهيم بن سعيد الجوهري أنه قال: «رأيت صبيًّا قد حُمل إلى المأمون، قد قرأ القرآن، ونظر في الرأي، غير أنه إذا جاع يبكي».
* وقال عبد الله بن محمد الأصبهاني: «حفظت القرآن ولي خمس سنين»( ).
* وقال عبد الله بن الإمام أحمد: «لقنني أبي أحمد بن حنبل القرآن كله باختياره»( ).
* قال ابن كثير رحمه الله: «وعلى كل تقدير، ففيه دلالة على جواز تعليم القرآن في الصبا، وهو ظاهر، بل قد يكون مستحبًا أو واجبًا، لأن الصبي إذا تعلم القرآن بلغ وهو يعرف ما يصلي به، وحفظه في الصغر أولى من حفظه كبيرًا، وأشد علوقًا بخاطره، وأرسخ وأثبت، كما هو المعهود من حال الناس»( ).
وللقرآن تأثير عجيب في نفس الطفل لا سيما بعد حفظه وتكراره وفهمه، يظهر ذلك جليًا في سلوكه وأخلاقه ومعاملته، حتى في دراسته فهو متفوق فيها، وجمعيات تحفيظ القرآن الكريم في بلادنا شاهدةٌ بذلك، إذ طلابها هم من النابغين، وفي طلب العلم والحرص عليه من السابقين، ولا غرو في ذلك، إذ حفظهم للقرآن وتمسكهم بتعاليمه قادهم لتلك الأخلاق العالية، والصفات النبيلة.
فعلى الأبوين أن يحرصا كل الحرص على تعليم أبنائهم القرآن الكريم، ففي ذلك الخير والفلاح في الدنيا والآخرة.
ثالثًا: تعليمهم الآداب الشرعية والمنح المرعية:
* قال الله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ?.
* قال علي ?: «علِّموهم وأدِّبوهم».
* وروى الترمذي بسند مرسل أن النبي ? قال: «ما نحل والدٌ ولده أفضل من أدب حسن».
* قال علي بن المديني رحمه الله: «توريث الأولاد الأدب، خيرٌ لهم من توريث المال، الأدب يكسبهم المال، والجاه والمحبة للإخوان، ويجمع لهم خيري الدنيا والآخرة»( ).
* فمن ذلك: تعليمهم آداب الأكل والشرب والنوم والاستيقاظ، ودخول المسجد والخروج منه، ودخول المنزل والخروج منه، وآداب قضاء الحاجة، والأدب مع الوالدين والسلام عليهما عند الدخول والخروج، والأدب مع الإخوة والأخوات، واحترام الصغير منهم للكبير، وعطف الكبير على الصغير، وبإمكان المؤدب عقد حلقة أسبوعية أو نصف شهرية مع أفراد الأسرة، وفيها من الفوائد ما لا يحصى، من ذلك تدارس مثل هذه الآداب وحفظها ووضع جائزة أو هدية لمن يحفظ أكبر عدد ممكن من الآداب والأذكار.
* ومن ذلك: تكوين مكتبة صغيرة في المنزل تحتوي على المختصرات المفيدة في مسائل العقيدة والفقه والأذكار والآداب، ومجموعة من الفتاوى وكتب السيرة، لا سيما ما يتعلق بأخلاق النبي ? وغزواته، وكتب قصص الأطفال التربوية الهادفة، وبعض المجلات الإسلامية.
رابعًا: القدوة:
تعتبر القدوة من أهم وأبرز ما يعين على غرس الصلاح والاستقامة في نفوس الأبناء، إذ أن الطفل منذ السنة الثانية من ولادته تقريبًا يبدأ بتقليد أبويه، ويبلغ التقليد غايته في سن الخامسة أو السادسة، وهذا التقليد دليل على محبة الأولاد لآبائهم( ).
وحينئذ إذا كان الأبوان يتحليان بالصدق والأمانة والخلق الحسن والعفة نشأ الولد على ذلك، وإذا كانا بالعكس يُظهران أو أحدهما الكذب والخيانة والجبن ونحوها نشأ الولد كذلك، ولذا فقد ذكر بعض أهل العلم من الحكم في مشروعية صلاة الرجل النافلة في بيته تأثر أهل البيت – وبخاصة الصغار – برؤية والدهم يصلي على مرأى منهم، مما يؤدي إلى انطباع تلك الصورة في نفوسهم.
* قال عمرو بن عتبة ينبه معلم ولده لهذا الأمر، فيقول: «ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك، فإن عيونهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما صنعت، والقبيح عندهم ما تركت»( ).
فالوالدان مطالبان بتطبيق أوامر الله تعالى وسنة رسوله ? سلوكًا وعملاً، والاستزادة من ذلك ما وسعهم، لأن أبناءهم في مراقبة مستمرة لهم صباحًا مساء وفي كل آن.
* ثم إن صلاح الأبناء واستقامتهم مما يدخل الفرح والسرور على الآباء، قال الحسن البصري في قوله تعالى: ?رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ? [الفرقان: 74] قال: «في الدنيا يرى الرجل من ولده وزوجته عملاً صالحًا تقرُّ به عينه»( ).
* * * *
الفصل الثاني
دور تنمية التربية والمراقبة الذاتية في نفوس الأبناء
لمعرفة الضار من النافع
المراقبة الذاتية في الأبناء تنبني على ما تقدم من تعريفهم بنعم الله وفضله، وتعليمهم العبادات والآداب الشرعية فينتج من ثمار ذلك مراقبة الله تعالى، واستشعار معيَّته، وإحاطته بالإنسان وأعماله.
* وقد ركز منهج الإسلام في التربية على إثراء جانب المراقبة لله عزَّ وجلَّ في النفس الإنسانية خصوصًا الأبناء، قال الله تعالى عن لقمان الذي أرشد ولده إلى هذه المراقبة: ?يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ?.
* وروى الترمذي وصححه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي ? يومًا فقال: «يا غلام إني أُعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ لله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف».
وبهذا الأسلوب يتعلق الولد بالله عزَّ وجلَّ، ويقطع جميع العلائق دون الله، فلا يرجو إلا الله، ولا يخاف إلا الله، ولا يسأل إلا الله، فيحفظ الله في خلواته، وعند قوته بتمام الاستقامة على منهجه، ويحصل له بذلك التمييز بين ما يضره وما ينفعه.
ومن الأمثلة التي تُذكر في المراقبة قصة الأم مع ابنتها في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ?، كانت الأم تريد أن تخلط اللبن بالماء طمعًا في زيادة الربح، والبنت تذكِّرها بمنع أمير المؤمنين، فقالت: أين نحن من أمير المؤمنين؟ إنه لا يرانا.. فقالت البنت: إن كان أمير المؤمنين لا يرانا، فربُّ أمير المؤمنين يرانا!!( ).
* * * *
الفصل الثالث
دور الأبوين في اختيار الأصحاب لأبنائهم
ومعرفة من يجالسون
للصحة أثر بالغ في توجُّه الأبناء وسلوكهم، لأن الصاحب مرآة لصاحبه.
وقد بيَّن النبي ? أثر الرفيق والصاحب إيجابًا وسلبًا في حديث أبي موسى ?، عن النبي ? قال: «مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحْذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة» [متفق عليه].
فالجليس الصالح يعلِّم الابن ما ينفعه في دينه ودنياه، أو يهدي له نصيحة، أو يحذِّره من الإقامة على ما يضره، وربما دعاه إلى مكارم الأخلاق ومحاسنها بقوله وفعله، فإن الإنسان مجبول على الاقتداء بصاحبه وجليسه، والأرواح جنود مجندة يقود بعضها بعضًا إلى الخير أو إلى ضده، ولو لم يستفد من جليسه الصالح إلا أنه ينكف بسببه عن المعاصي والسيئات لكفى بها فائدة.
* وأما جليس السوء فإنه بضد ذلك كله، يدل الابن على كل فحشاء ومنكر، وربما هوَّن المعصية في عينه وأمَّله في التوبة حتى ينقاد لفعلها ويقع في حبائلها ( ).
وقد قيل:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن يقتدي
وقيل: «الصاحب ساحب».
فلزامًا على الأب أن يختار لابنه الصحبة الصالحة، ويدله عليها، ويحذِّره من صحبة الشرار فيقول مثلاً: يا بني فلان مستقيم محافظ على الصلوات وطالب علم فاذهب معه، وفلان مقصِّر وسيئ الأخلاق فاحذره، وما أشبه ذلك، لا سيما إذا كان هذا المقصِّر وسيئ الأخلاق عنده أفكار منحرفة، أو له علاقات مشبوهة مع أناس ليسوا من أهل العلم ولا يُعرفون بطلبه، فتحذيره من هذا وأمثاله لابد منه، حتى يسلم الابن من الانحراف والضلال – والعياذ بالله -، وكذلك الأم مع ابنتها تسأل عن رفيقاتها، ومدى استقامتهن، وتدلها على الطالبات المستقيمات لاسيما إذا كانت البنت في زمن الطلب والدراسة، أما إذا كانت قد تجاوزت هذه المرحلة فدور الأم حينئذ التوجيه والنصح فقط.
وبهذا الأسلوب يسلم الأبوان من تسلط الأشرار ورفقاء السوء على أبنائهم، وقد بذلا السبب الذي يحصل به اتقاء هذا الشر.
* * * *
الفصل الرابع
انشغال الوالدين وغيابهم له ضريبة
في تصرف أبنائهم وتوجيه ذلك
ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي ? قال: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راعٍ ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، فكلكم راع ومسئول عن رعيته».
* وفيهما عن معقل بن يسار ? قال: سمعت رسول الله ? يقول: «ما من عبد يسترعيه الله - عزَّ وجلَّ - رعية، يموت يوم يموت، وهو غاش لرعيته إلا حرَّم الله عليه الجنة».
* وفي رواية: «فلم يُحطها بنصحه لم يرح رائحة الجنة».
* ففي هذين الحديثين دليلٌ على عظم المسئولية الملقاة على عاتق الأبوين تجاه أبنائهم، وأن انشغالهم عنهم له عواقب وخيمة ونتائج محزنة.
* قال ابن القيم رحمه الله: «من أهمل تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سدًى، فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغارًا، فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كبارًا، كما عاتب بعضهم ولده على العقوق، فقال: يا أبت إنك عققتني صغيرًا، فعققتك كبيرًا، وأضعتني وليدًا فأضعتك شيخًا»( ).
* وقال أيضًا: «وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد رأيت عامته من قبل الآباء»... «فما أفسد الأبناء مثل تغفُّل الآباء وإهمالهم»( ).
وحينئذ فدعوى الأب الانشغال عن الأبناء بالوظيفة أو بالجلوس مع الأصدقاء، والأم بزيارتها لصديقاتها أو تنقلها بين جيرانها غير مبرر لترك الأبناء وعدم مراقبتهم.
وإنك لتعجب من حال بعض الآباء – هداهم الله – لا يعلم عن حال أولاده شيئًا، ولا يراهم إلا نادرًا، في النهار مشغول بعمله ووظيفته، وفي الليل مع أصدقائه وزملائه في استراحة أو في نزهة أو ما أشبه ذلك، وهذا تفريط بلا شك، وسيرى عواقب ذلك عاجلاً أو آجلاً.
* * * *
الفصل الخامس
الأساليب النافعة في تربية الأبناء
وحفظهم من الانحرافات الفكرية
تقدم ذكر بعض الأساليب النافعة في تربية الأبناء.
أما حفظهم من الانحرافات الفكرية فيتمثل فيما يلي:
أولاً: إبعادهم عن أنواع الانفعالات والتوترات العصبية:
فقد أثبتت الدراسات أن الانفعالات الشديدة تؤثر تأثيرًا بالغ الضرر على مختلف الوظائف والعمليات العقلية للفرد، كالإدراك والتذكر والتفكير وغيرها ( ).
فمتى ما رأى الأب من ابنه أو ابنته انفعالاً نفسيًّا، أو توترًا، أو غضبًا فليهدِّئه وليسكِّن من غضبه وانفعاله ما أمكن، بأمره بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، والوضوء، ويذكِّره بين حين وآخر عدم العود لمثل هذه التصرفات فإنها تؤثر عليه، وعلى سلوكه وأخلاقه وعلى صحته.
ثانيًا: حمايتهم مما يخرم الدين ويخدش المروءة:
* من ذلك: المعاصي بأنواعها، كاللهو المحرم، وفاحش القول والسب والشتم، وغير ذلك من أسباب غضب الله عزَّ وجلَّ، فإن المعاصي تفسد العقل، فإن للعقل نورًا والمعصية تطفئ نور العقل ولابد، وإذا طفئ ضعف ونقص»( ).
* وقد ذكر الزرنوجي رحمه الله أن من أسباب النسيان، المعاصي وكثرة الذنوب( ).
* قال ابن القيم رحمه الله: «ويجب أن يتجنب الصبي إذا عقل: مجالس اللهو والباطل، والغناء وسماع الفحش، والبدع، ومنطق السوء، فإنه إذا علق بسمعه عسر عليه مفارقته في الكبر، وعز على وليه استنفاذه منه»( ).
وهذا حقٌّ، فإن الوقاية من شرور هذه المنكرات أفضل بكثير من معالجة الصبي بعد تعلقه وشغفه بها.
* وكتب عمر بن عبد العزيز لمؤدب ولده قائلاً: «ليكن أول ما يعتقدون في أدبك بغض الملاهي التي بدؤها من الشيطان، وعاقبتها سخط الرحمن جل جلاله، فإنه قد بلغني عن الثقات من حملة العلم أن حضور المعازف واستماع الأغاني واللهج بها ينبت النفاق في القلب كما يُنبت الماء النبتة»( ).
* ومن ذلك: الكتب والمجلات والقنوات التي تحمل أفكارًا منحرفة تؤدي إلى زعزعة الإيمان وإدخال الشبهات؛ لأن هذه الوسائل لها تأثير بالغ على الأبناء، لا سيما مع تدفق هذا السيل الجارف من القنوات الفضائية التي يبث فيها كل غث وسمين.
فكان لزامًا على الأبوين أن يمنعا هذا السيل من اجتراف، الأبناء وقد نشر في مجلَّة «اليونسكو» تقريرٌ عن نتيجة استطلاع ياباني عن وسائل الإعلام، جاء فيه ما يلي:
«إن فيض المعلومات التي تقدمها وسائل الإعلام يعطل تطور القدرات التأملية الخلاقة لدى الأطفال، وأوضح التقرير أن الأطفال كانوا ضحيَّة لبرامج التلفزيون والمجلات الهزلية، وذكر الآباء والمدرسون الذين شملهم الاستطلاع أن وسائل الإعلام أشد ضررًا على الأطفال، وخاصة البرامج الترفيهية الساقطة والمجلات الهزلية التي ترد إليهم»( ).
ثم هناك بدائل – بحمد الله – فعلى الأب البحث عنها، وسؤال أهل العلم تجاهها.
* وعلى الأبوين أيضًا العمل الجاد المثمر في توعية الأبناء بأعدائهم وما يكيدونه بهم وما يعدُّونه من خطط وأساليب، فقد قال تعالى: ?مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ?.
إن أعداء الإسلام بما يبثونه من إعلام هابط ليصرفوا به المسلمين عن دينهم القويم بشتى الوسائل والأساليب، وليوقعوا أبناء المسلمين في الانحراف الأخلاقي والديني حتى يكونوا مثلهم، قال تعالى: ?وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ? [البقرة: 109].
* ومن ذلك: التقليد الأعمي، فمن أهم ما ينبغي للأبوين تحذير الولد من الانسياق وراء التقليد الأعمى بلا رؤية ولا تفكير، وتوعيته من الانزلاق وراء التشبه بلا تبصرة ولا هدى... وذلك لأن التقليد الأعمي دليل على الهزيمة الروحية والنفسية، وسبب لفقدان الشخصية، وسبب للاندفاع إلى فتنة الحياة الدنيا ومظاهرها، وهذا بلا شك يؤدي بصاحبه إلى الغرور والانحلال ( ).
وقد حذَّر النبي ? من ذلك، فقد روى الترمذي – بسند ضعيف – عن حذيفة وابن مسعود رضي الله عنهما مرفوعًا: «لا تكونوا إمعة تقولون: إن أحسن الناس أحسنّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا».
* قال ابن مفلح: «الإمعة الذي لا يثبت مع أحد ولا على رأي لضعف رأيه»( ).
فإذا رأى الأب ولده يقلِّد شخصًا من الناس، وعلى هذا المقلِّد مؤاخذات دينية أو أخلاقية فإنه يحذِّره من ذلك، ويبين له مفاسد التقليد من عدم الاعتداء بالرأي، والبحث عن الحق.
ثالثًا: الابتعاد عن كثرة اللوم والعتاب والتعنيف:
إن لوم الولد وتوبيخه دائمًا له مظاهر سيئة تؤدي بالولد إلى الانحراف، وذلك بالبحث عما يؤنسه ويدخل السرور عليه حتى ممن لا يوثق بدينه وخلقه.
ولم يكن النبي ? يلجأ إلى مثل هذا الأسلوب مع الصغار، فقد قال أنس ?: «خدمت النبي ? عشر سنين فما قال لي لشيء فعلته: لم فعلته؟، ولا لشيء لم أفعله: لم لم تفعله؟».
* وروى عبد الرزاق عن عروة عن أبيه قال: قال رسول الله ?، أو قال أبو بكر، أو قال عمر رضي الله عنهما لرجل عاب عن ابنه شيئًا صنعه: «إنما ابنك سهمٌ من كنانتك»( ).
فعندما يعيب الأب على ابنه، إنما يعيب على نفسه، لأنه هو الذي خرَّج هذا الولد، وكان يسارع إلى تربيته.
* وعليه فإذا رأى الأب من ولده تقصيرًا أو تفريطًا فيؤنبه برفق ولا يكثر الملامة عليه، ويرشده إلى الصواب من غير تقريع.
رابعًا: استغلال وقت الفراغ:
* للوقت أهمية كبرى في حياة المسلم إذ هو مزرعته، وهو عمره في الحقيقة، وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم، وهو يمر أسرع من السحاب، فما كان من وقته لله وبالله فهو حياته وعمره، وغير ذلك ليس محسوبًا من حياته وإن عاش فيه عيش البهائم( ).
* والفراغ للأولاد داء قاتل، قال النبي ?: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ» [رواه البخاري].
وحينئذٍ فاستغلال وقت الفراغ لدى الأبناء يكون بطرق شتى باللعب الهادف، والقراءة المتنوعة، والرحلات البرية، وفي الإجازات التي يكون وقت الفراغ فيها أطول تكون مضاعفة الجهد أكبر، ولعل من ذلك اشتراك الولد في المراكز الصيفية، والبنت في الدور النسائية لتحفيظ القرآن الكريم، والمشاركة في المسابقات الثقافية وغيرها.
فالمقصود حفظ وقت الأولاد ما أمكن ليعود عليهم وعلى أسرتهم ومجتمعهم بالنفع والفائدة.
خامسًا: عدم إظهار الخلافات الزوجية بين الأولاد:
لأن إظهار الخلافات أمام الأولاد يحدث لديهم قلقًا وضيقًا وحرجًا، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: ?وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ...? الآية.
ذكر بعض المفسرين أن الحكمة من الهجر في المضجع فقط هو عدم إظهار الهجر للأولاد لئلا يقع في نفوسهم شيئًا.
وقد طلب مني ذات مرة أن أقرأ على بنت في الخامسة عشرة من عمرها، فلما قرأت عليها تبين لي أنها لا تعاني من مرض نفسي ولا غيره، إنما الذي حصل أن أبويها وقع بينهما شقاق شديد وعنف وسب وشتم على مرأى ومسمع من ابنتهما، فسقطت البنت مغشيًا عليها لما رأت من حال أبويها.
فلزامًا على الزوجين ألا يظهرا الخلافات بين الأولاد، لئلا يقع الأولاد في الانحرافات والضيق والحرج من ذلك.
سادسًا: عدم تفضيل بعض الأولاد على بعض:
* لأن ذلك يوقع البغضاء بينهم والحقد والكراهية، ويؤدي بالتالي إلى الانحراف والانقياد وراء الأهواء المضلة، والأفكار المنحرفة، لأن هذا الولد الذي فُضِّل عليه أخوه سيشعر أنه لا يؤبه به، ولا يُلتفت إليه، وحينئذٍ سيضطره هذا التصرف إلى الانحراف.
* وقد ثبت في «الصحيحين» أن النبي ? قال: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» قاله لبشير بن سعد لمَّا فضَّل ابنه النعمان على بقية إخوته بعطية.
والله أسأل أن يصلح نيَّاتنا وذرياتنا، وأن يجعلهم ذخرًا لنا في الدنيا وفي الآخرة، وأن يُقر أعيننا بصلاحهم واستقامتهم، وأن يجنبهم الشرور والفتن ما ظهر منها وما بطن، إنه جواد كريم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
just_f[/b]
[b style="font-weight: bold;"]
[/b]
[b style="font-weight: bold;"] [/b]