تشير
الأحداث والدلائل أنه كان أمراً حتمياً قيام ثورة 26سبتمبر عام 1962م،
والاحتمال كبير في أنه لولا موت الإمام أحمد حميد الدين الفجائي في الثلث
الأخير من ذلك الشهر لما كان استطاع أن يحتفظ بعرشه مدة أطول ويستمر يركب
رياح الثورة التي هبت عليه من كل حدبٍ وصوب من خلال تأسيس حركة الضباط
الأحرار وازدياد المصادمات المسلحة وانتشار المسيرات الطلابية في صنعاء.
كذلك مما لا ريب فيه فإن الثورة كانت على وشك أن تحدث أكان خَلَفه هو
البدر أو الحسن، وبغض النظر عن نوع السياسة الجديدة التي سيتبعها وذلك بسبب
شدة رباح التغيير التي كانت تهب على اليمن من الداخل أو الخارج.
إمام جديد
في 19سبتمبر عام 1962م توفي الإمام أحمد في تعز وأعلن محمد البدر ملكاً
وإماماً جديداً حينها على الزيديين باسم محمد الذي لقب بـ«المنصور بالله»
وقد أعلن الإمام محمد في خطاب العرش في 20سبتمبر أنه سيكون المدافع عن الحق وسيساعد المظلومين وسيضع أسس العدالة.
وأكد لرعاياه أنه سيسن قوانين بهذا الشأن تضمن حقوقهم وتحدد واجباتهم
وقال:«أنا عازم بعون الله على صياغة الأسس التي من خلالها لا يكون لمواطن
أفضلية على آخر».
وذكر البدر ضرورة الاعتماد على إرشادات الملك الراحل أحمد حميد الدين،
وفي الأيام الأولى لحكمه وقع الإمام «12»مرسوماً كما أصدر مرسوماً أعلن
العفو العام الكامل عن كل الجنح السياسية السابقة التي على أساسها سيق
أشخاص ارتكبوها إلى السجون أو هاجروا إلى الخارج، والمرسوم الرابع قضى
بإلغاء نظام الرهائن.
والمرسوم السادس ركز فيه على زيادة أجور الجنود والضباط والمتطوعين من
القبائل وارتفع راتب الجندي من 10إلى 15ريالاً في الشهر..وفي المراسيم
الأخرى أشير إلى عمل المحاكم ومنع التعذيب في السجون.
وأعلن البدر خلال زيارته للجامع الكبير في صنعاء أنه يعتزم اتباع سياسة
والده والتعاون مع عمه الأمير الحسن ويمكن الافتراض أن البدر ومن أجل
تحييد المعارضة لجأ إلى مثل هذا التصريح، إلا أن نشاطاته أظهرت أنه قرر
تصفية المعارضة الداخلية أو التي كانت في الخارج.
وفي الجلسة الأولى للحكومة بحضور البدر والتي عقدت نهار يوم 25سبتمبر
عام 1962م تم اتخاذ قرار بالاعتقال الوقائي لـ16ضابطاً يشتبه في علاقتهم
بمنظمة الضباط الأحرار، ولكن تطورت الأحداث بشكل مغاير..
غموض
المحاضر المرحوم سلطان ناجي مؤلف كتاب «التاريخ العسكري لليمن 1839 ـ
1967م» أشار في كتابه أنه لا يزال هناك بعض الغموض حول ما جرى بالضبط
مباشرة قبل وبعد قصف قصر البشائر حوالي الساعة الحادية عشرة من ليلة السادس
والعشرين من سبتمبر وماذا كانت الأدوار الفعلية لبعض الشخصيات التي برزت
أو استشهدت في الأسابيع الأولى من قيام الثورة، ولم نجد من يلقي الأضواء
الكاشفة على بعض الحلقات المجهولة.
الإطاحة بالعرش
فقبل قيام الثورة مباشرة كانت هناك على الأقل أربع مجموعات مختلفة تعمل
على الإطاحة الفعلية بالعرش الإمامي اثنتان منها شخصان حاشد وبكيل
والأخريان شخصان الجيش ومنظمة الضباط الأحرار وكانت هذه المنظمة الأخيرة هي
التي قامت بالثورة وكان المحرك الفعلي لها هو الضابط الشاب علي عبدالمغني
«25سنة» الذي أستشهد في ظروف غامضة بعد أسابيع من قيام الثورة وهو يحارب
الملكيين في المحور الشرقي من البلاد.
تحذير البدر من الانقلاب
كما يؤكد دانا شميث في كتابه «اليمن ذي أنون وور» «اليمن :الحرب
المجهولة» ـ وقد استقى معلوماته من الجانبين الملكي والجمهوري ـ فإن السفير
المصري في صنعاء آنذاك عبدالواحد الممسك بخيوط المجموعات الأربع كان هو
الذي حذر البدر من وقوع الانقلاب قبل 24 ساعة من وقوعه الفعلي ! وكان البدر
قد سبق أن حُذر تلغرافياً من قبل سفيره في لندن أحمد محمد الشامي وعندما
وصل التلغراف إلى سكرتيره الخاص عبدالله الضبي تظاهر أنه لم يستطع أن يفك
شفرته.
أما التحذير الثاني فقد جاءه من محمد عبدالله الشامي فقد أخبره البدر
أنه قد استلم تقاريراً تقول أن بعض ضباط الجيش كانوا يعدون العدة لقتله.
إلا أن أهم تحذير جاءه قبل يوم فقط من عبدالواحد الذي قال إن معلوماته
من المخابرات المصرية.. وقد حذر عبدالواحد الإمام من عبدالله السلال و15
ضابطاً بما فيهم علي عبدالمغني.
ولما أخبر البدر السلال بالأمر أكد له أنه ليس مشتركاً بأية خطة
ضده..فبالفعل لم يكن في منظمة علي عبدالمغني وإن كان يعرف عن وجودها ولكن
ليس توقيتها.
وحتى يزيل مخاوف البدر فقد طمأنه أنه لا يعتقد بصحة تآمر الضباط ضده
وفي الساعة الثالثة بعد ظهر يوم الأربعاء 25 سبتمبر فرضت حالت الطوارئ في
الكلية الحربية ومدرسة الأسلحة وصدرت توجيهات من القيادة بتواجد جميع
الضباط ومنع خروج أي ضابط من الكلية إلا من كلف من قبل القيادة بمهمة،
وانصرف الجميع كلٌ إلى سلاحه لاستكمال التجهيزات النهائية وتعبئة الدبابات
والسيارات بالوقود، وتم الاتفاق على أن لا تفتح مستودعات الذخيرة إلا في
وقت متأخر وكان لابد من التأكد من خروج الإمام البدر إلى ديوان المواجهة في
قصر البشائر وتم تكليف النقيب حسين السكري لمعرفة ذلك، وتم اللقاء بالسكري
وأكد أن الإمام البدر قد خرج ليرأس اجتماعاً لمجلس وزرائه.
وفي الساعة الثامنة وبعد أن تحدد موعد التحرك في ليلة السادس والعشرين
من سبتمبر أمرت القيادة بفتح مستودعات الذخائر والأسلحة الخفيفة وتوزيعها
على الضباط، كما تم نقل ذخائر الدبابات إلى موقع الدبابات في الفوج عن طريق
أسطح ثكنات الكلية الحربية وفوج البدر وذلك من خلال منفذ صغير يؤدي إلى
مقر قيادة الفوج، وبعد أن تم إنجاز مهمة نقل الذخائر تقرر عقد اجتماع عام
بمقر القيادة «الكلية الحربية» في الساعة التاسعة مساءً، وبعد الكلمة التي
ألقاها الملازم صالح علي الأشول في الاجتماع بدأ بإعلان المهام على
الحاضرين، وبعد أن تأكد كل عنصر من واجبه تحرك الجميع إلى مواقعهم في
انتظار أوامر التحرك، وفي الساعة العاشرة ليلاً كانت القوة في كل من قصر
القيادة ومقر الفوج على أهبة الاستعداد للهجوم،وكما هو متفق عليه فقد ظلت
القيادة تنتظر سماع طلقات الرصاص وهي الإشارة التي تؤكد أن المهمة الأولى
في الخطة قد أنجزت من قبل النقيب حسين السكري وهي القضاء على الإمام البدر
بعد خروجه من مقر الاجتماع، وبعد أن تأكد للقيادة تعثر مهمة النقيب السكري
أصدرت أوامرها بالهجوم.
السلال في البشائر ليلة الثورة
مساء يوم الأربعاء 25 سبتمبر وتحديداً حوالي الساعة الحادية عشرة وخمس
وأربعين دقيقة قُصف قصر البشائر، وذلك بعد أن انفض مجلس البدر مع بعض كبار
رجال الدولة الساعة العاشرة والنصف من ذلك المساء،ومن الشخصيات البارزة
التي كانت مشتركة في الاجتماع السلال والقاضي الإرياني والشيخ محمد علي
عثمان وعلى الأقل تم قتل ثلاثة من المشتركين الآخرين بعد بضعة أيام من قيام
الثورة لموالاتهم لنظام الإمامة.
وبعد أن انفض المجلس حاول البدر استبقاء السلال لمواصلة مناقشة قضية
المؤامرة إلا أنه استطاع أن ينهي الموضوع بسرعة ويتملص منه ويعود إلى
بيته،وعندما كان يتجه نحو بيته لم يكن يدري أن الوحدات المصفحة التي جمعها
في المدينة ستقوم بضرب قصر البشائر بقيادة الملازم علي عبدالمغني،فقد
استطاع علي عبدالمغني وزملاؤه الضباط الأحرار استخدام ست دبابات من طراز
«تي 34» وأربع سيارات مصفحة لضرب قصر البشائر وكانوا كلفوا قبل القصف بقليل
أحد أعضائهم «حسين السكري» من عكفة البدر باغتيال البدر داخل القصر إلا أن
رصاص «البندق» خانه وتم القبض عليه.
وجراء القصف تهدم الطابقين العلويين من القصر وقتل ثلاثة من عكفة البدر، ونتيجة اشتداد الضرب في جميع أفراد حراسة القصر.
قصة هروب البدر
خلال الساعات الأولى من طلوع الفجر كان الحرس الملكي يقاتل بشراسة ثم
انخفضت حدة القتال تدريجياً خلال تبدد الظلام ومجيء الضوء وتمكنوا من
الفرار عبر البيت الملاصقة للقصر، مما جعل البدر ينظر إلى قصره وهو منهار
أمام حصار الدبابات، فأقدم على مغامرته بالهرب مستعيناً بمن بقى معه من
المقربين وخرجوا متنكرين وتمكنوا من الوصول إلى بيت يبعد عن القصر ببضع
مئات من الأمتار.
وفي 26سبتمبر وصل البدر إلى مركز بيت غداقة في طريقه إلى حجة ليقاوم
الثورة وحشد عدد من أفراد القبائل وعندما وصل حجة فوجئ بمقاومة شرسة من
قوات الثورة.
عتاد الثورة
كانت القوة المعدة للهجوم على دار البشائر تتكون من ست دبابات، ـ كما
أسلفنا ـ الدبابة الأولى كانت بقيادة الملازم عبدالله عبدالسلام صبره،
وعليها طاقمها ومجموعة اقتحام، والثانية بقيادة الملازم محمد الشراعي
وعليها طاقمها ومجموعة اقتحام أخرى، والثالثة بقيادة الملازم عبدالله محسن
المؤيد والرابعة بقيادة الملازم يحيى جحاف والخامسة بقيادة الملازم أحمد
مطهر زيد والسادسة بقيادة الملازم عبده قائد، ثم انضمت إلى القوة دبابة
سابعة بقيادة الملازم عبدالكريم المنصور بعد منتصف الليل، وإلى جانب
الدبابات عدد من السيارات المدرعة بأسلحتها ومهمتها حماية تحرك الدبابات
عند الهجوم.
خلال الهجوم استطاع الثوار عبر سيارات محملة بالجنود ودبابة بقيادة
صالح الأشول الاستيلاء على دار الإذاعة كما ارسلوا سيارة أخرى للاستيلاء
على المطار.. وفي الوقت ذاته ارسل أحد الضباط الأحرار هو غالب الشرعي إلى
بيت السلال يطلب منه سلاحاً والانضمام إليهم.
وبعدها ذهب علي عبدالغني والسلال إلى دار الإذاعة وهناك أذاع بياناً
للأمة بعد أن دارت معركة في قصر السلاح في القلعة واستطاع الثوار الاستيلاء
على مستودعات الأسلحة وبدأت فرق الجيش تنضم إلى الثورة وحدة بعد الأخرى في
صنعاء.
هناك العديد من الكتب التي سردت تفاصيل الثورة اليمنية من هذه الكتب
«أسرار ووثائق الثورة اليمنية» الذي تناول تفاصيل تنفيذ الخطة ونوجزها بـ:
تفاصيل تنفيذ الخطة
تضمنت الخطة الكثير من الترتيبات وكان الغرض منها تحقيق السيطرة
الكاملة على المواقع الاستراتيجية في العاصمة صنعاء، وكانت الخطة على النحو
التالي:
اقتحام دار البشائر قصر الإمام البدر وتحركت لتحقيق هذا الهدف القوة التالية:
دبابتا اقتحام وعلى كل من الدبابتين مجموعة اقتحام أولى وثانية.
أربع دبابات أخرى
تحركت مدرسة ضباط الصف بقيادة الملازم أول هادي عيسى ومهمتها احتلال
الأماكن المحيطة بقصر البشائر وهي منزل الهجوة، منزل جمال، منزل الشوكاني،
منزل رفعت، وكانت أيضاً من مهمتها تنظيم عملية الاقتحام إلى داخل القصر
وضرب أية مقاومة مضادة.
ثلاث مدرعات على كل منها رشاش متوسط.
احتلال منطقة بئر خيران
تتحرك دبابتان لاحتلال منطقة خيران، وتقوم هاتان الدبابتان إلى جانب
مهمتهما الأساسية بمعاونة القوة المهاجمة لقصر البشائر في حالة الضرورة.
بالإضافة إلى احتلال دار الوصول ومحاصرة قصر السلاح واحتلال منطقة
خزيمة، بالإضافة إلى قيادة الطبشية، والسيطرة على الهاتف وقطع الخطوط
الهاتفية المطوية، وكذا السيطرة على دوائر الأمن.
صباح اليوم الخالد
وفي الساعة السابعة من صباح اليوم الخالد يوم السادس والعشرين من
سبتمبر 1962م بدأ الإرسال الإذاعي على الموجة المعتادة ينشد «الله أكبر يا
بلادي كبري» ليعلن على الشعب اليمني وعلى العالم بأسره ميلاد عهد جديد، هو
عهد الثورة والانعتاق من براثن التخلف والعزلة، والتحرر من الحكم الإمامي
الكهنوتي المستبد، وبدأ الملازم علي قاسم المؤيد والأخوة الشباب: عبدالعزيز
المقالح، والأستاذ عبدالوهاب جحاف، والأستاذ صالح المجاهد، بإعلان بيانات
الثورة وأهدافها الستة الخالدة، وقد سارت الأمور في الإذاعة سيراً حسناً.
موقف تعـز
كان فرع الضباط الأحرار في تعـز قد استمر في ضم العديد من الضباط
والجنود للمشاركة في تنفيذ الخطة التي لم يحدد لها بتوقيت معين، حيث استطاع
ضم عناصر كان لها دور فعّال وبارز يوم 26سبتمبر وهو الملازم حمود حمادي
وكان منزله وكراً للذخائر الخفيفة الخاصة بالتنظيم وصالح البركي والملازم
أحمد محمد العلفي والنقيب علي بن علي الجائفي ويحيى محمد صالح المطري وعلي
واصل وصالح حنكل وحمود محمد باسلامة وآخرون لا يتسع المجال لذكر أسمائهم،
وكان من أبرز من تعاون مع الحركة من المدنيين يحيى بهران الذي كانت له
مواقف وطنية رائعة ومحمد الناظري وأحمد منصور أبوأصبع.
وقد انتقلت تعليمات اللجنة القيادية من خلال علي الضبعي لتحديد يوم
الأربعاء ليلة الخميس الـ26من سبتمبر 1962م موعد لساعة الصفر لدك حصون
الإمامة وقد أبلغ الضبعي اللجنة القيادية أن قيادة تعز لا تقبل بقائد
للثورة غير الزعيم حمود الجائفي لما يتمتع به من ثقة.
وفي صباح الخميس سيطرت القيادة العسكرية في تعز على كل المواقع
الاستراتيجية في لواء تعز والسيطرة على الحالة الأمنية ونجحت الثورة في
تعز.
دبلوماسي روسي أشار في مذكراته بعنوان «اليمن واليمنيون» أنه سجل نهار
27سبتمبر من إذاعة صنعاء أول بيان للضباط المنتصرين ،كما أبلغ راديو «صوت
العرب» عن الثورة في نبرات ترحيبية وأشار إلي سعي اليمنيين إلى التحرر من
ظلم الملكية، كما نظمت مظاهرات حاشدة في عدن لدعم الثورة كما وجهت برقيات
تهنئة إلى مجلس قيادة الثورة..وكان الاتحاد السوفيتي أول دولة تعترف
بالنظام الجمهوري بعد يومين من وقوع الثورة، وقد حذر خروشوف أن أي تعدٍ على
الجمهورية سيعتبر تعدياً ضد الاتحاد السوفيتي.
وفي اليوم الثالث من قيام الجمهورية تم اعتراف الجمهورية العربية
المتحدة بها ولم يأت منتصف شهر ديسمبر إلا وقد اعترفت بالنظام أكثر من
30دولة.
ولم تكن بريطانيا والولايات المتحدة والسعودية والأردن بين هذه الدول.