كانت مقابلته مع الرجل الذي تبين بعد ذلك أنه من إيران
مميزة في حد ذاتها، لكنها تلقي الضوء على قضية أكبر تتمثل في التدخل
الأجنبي في اليمن، وكيف دمرت الصراعات بين دول الخليج وإيران والولايات
المتحدة و«القاعدة» أجزاء من اليمن وحولتها إلى أنقاض، وكيف دفعت اليمنيين
إلى أحضان الجهاديين. عندما بدأ الإيرانيون الاتصال بجماجم، طلبوا منه
تجميع مجموعة من نشطاء الحراك الجنوبي، وبعد أسبوع ذهبوا إلى دمشق حيث
التقوا مسؤولين من السفارة الإيرانية. وأخبر المسؤولون تلك المجموعة بأنهم
سيدعمون مطالبتهم بتطبيق النظام الفيدرالي في اليمن، لكن ليس بإقامة دولة
منفصلة كما يريدون، بحسب جماجم والنشطاء الآخرين. وقال: «لقد أخبرتهم بأنهم
يريدون الاستقلال، وأن القرار ليس بيدي، فمن معي سيدينونني إذا وافقت على
النظام الفيدرالي».
بعد أيام عاد الإيرانيون وأخبروا اليمنيين بأن عليهم
الذهاب إلى طهران لمقابلة مسؤولين رفيعي المستوى. وأجروا ترتيبات سفر 15
يمنيا إلى طهران من دون تأشيرات على إحدى رحلات «الخطوط الجوية الإيرانية».
ولم يكن هناك أي شخص آخر على متن الطائرة على حد قول نشطاء. وعندما هبطت
الطائرة مروا من دون الحاجة إلى ختم جوازات السفر. وبدأ التعامل معهم منذ
ذلك الحين كمعتقلين لا أطراف مشاركة في مفاوضات على حد قول اليمنيين، حيث
تم نقلهم بالحافلة إلى أحد الفنادق ولم يسمح لهم بالتحرك إلا بصحبة حرس
لمقابلة المسؤولين الإيرانيين. وقالت ناشطة في المجموعة، رفضت الكشف عن
اسمها: «كانت أسماء كل المسؤولين الذين قابلناهم مستعارة. ولم يخبرونا من
الذي يعملون لصالحه، لكنهم طرحوا علينا الكثير من الأسئلة. وعقدت
الاجتماعات في وزارات، لكننا لم نعرف أيا منها، وكان الإيرانيون كثيرا ما
يتحدثون العربية التي كانوا يجيدونها إلى حد كبير». وقال جماجم: «لقد قالوا
إن إيران تود الاستثمار في مشاريع البنية التحتية في الجنوب. وقالوا إنهم
سيبنون مستشفى وسيدفعون رواتب للنشطاء. وكذلك سيمنحونني بضعة ملايين من
الدولارات لأبدأ بدفع الرواتب». وأضاف: «الأهم من ذلك هو قولهم إنهم
سيمدوننا بالأسلحة والتدريب».
كان الإيرانيون يبحثون عن موطئ قدم في شبه الجزيرة
العربية بحسب قيادي في جماعة الحراك الجنوبي، الذي رفض ذكر اسمه. قائلا ان
كل من إيران والمملكة العربية السعودية تتدخلان في شؤون اليمن منذ سنوات،
لكن زادت حدة هذا التدخل بعد الربيع العربي. اما جماجم فيدعي: «تدعم الدول
العربية السنية، مثل السعودية وقطر، السنة في سوريا وتغض الطرف عن الشيعة
في البحرين، بينما يبحث الإيرانيون عن موطئ قدم في المنطقة من أجل الضغط
على المملكة العربية السعودية، وليكونوا بالقرب من مضيق باب المندب في حال
خوض حرب مع الأميركيين».
يمر عبر مضيق باب المندب، حيث يلتقي البحر الأحمر وخليج
عدن قبالة الطرف جنوب غربي اليمن، كل السفن التي تمر من قناة السويس ونحو
30 في المائة من نفط العالم. كذلك لليمن حدود طويلة غير مسيطر عليها بشكل
كامل مع المملكة العربية السعودية حيث تمتد بطول 1100 ميل عبر الجبال
والصحراء والتي تهرب عبرها الأسلحة والقات والعناصر الجهادية المسلحة إلى
المملكة العربية السعودية. وكان الشباب يتجهون إلى إيران بهدوء لتلقي
التدريب على حد قول قيادي من النشطاء. وأوضح قائلا: «إنهم يتحركون في أعداد
صغيرة. لا أعتقد أن الإيرانيين يدربون جيشا هناك، فنحن لسنا بحاجة إلى
تدريب عسكري. أعتقد أنهم يجندونهم من أجل العمل كعملاء استخباراتيين هنا في
المستقبل، لكن هل هم بحاجة إلى تجنيد عميل استخباراتي في ثورة؟ إذا ساعدت
الثورة فسيساعدك الشعب بأكمله». وليست إيران هي الدولة الوحيدة التي تحاول
أن تزرع جواسيس في المنطقة، حيث تبين مؤخرا أن أحد الانتحاريين الجهاديين،
الذي تورط في التخطيط لهجوم على طائرة أميركية، كان يعمل لدى الأمن السعودي
ووكالة الاستخبارات الأميركية. ويقال إن هناك علاقة بين العميل المزدوج
والغارة الجوية التي شنت يوم الأحد وأسفرت عن مقتل فهد القصع، زعيم «تنظيم
القاعدة في شبه الجزيرة العربية»، الذي كان وراء الهجوم على المدمرة
الأميركية «يو إس إس كول» عام 2000.
كان اليمن دولتين منفصلتين قبل عام 1990. وعندما غادرت
القوات البريطانية الجنوب عام 1967، استولى الماركسيون على الحكم وأصبحت
تعرف باسم جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية. وتفاوض علي عبد الله صالح،
الذي كان يحكم الشمال آنذاك، في عام 1990 مع النظام في الجنوب لتوحيد اليمن
في إطار اتفاق لتقاسم السلطة.
وسرعان ما أعاد سكان الجنوب التفكير واندلعت الحرب في عام
1994 بين جيشي الشمال والجنوب اللذين حافظا على انفصالهما. وهزمت قوات
صالح قوات الجنوب في غضون أسابيع، ثم أحكمت قبضتها على المنطقة. وكانت
النتيجة زيادة الفساد مع استئثار النخبة الشمالية بأفضل الوظائف والأراضي.
وقال سكان الجنوب إنه تم تهجير مسؤولين حكوميين من الجنوب من العقارات
المميزة الساحلية التي تم إحاطتها بالأسوار وحل محلهم أشخاص من العاصمة
صنعاء. وكان المقاولون الذين يديرون حقول النفط والغاز من الشمال.
كل ليلة كان الشباب والعجائز يخرجون في مسيرات في شوارع
عدن وهم يحملون الأعلام ويدعون إلى إنهاء هذه الوحدة. واندلعت احتجاجات
عفوية مع مغادرة الطلبة مدارسهم.
وفي أحد أيام الجمعة تابعنا مسيرة لخمسة عشر شخصا يحملون
جثتي شهيدين قتلا على أيدي الشرطة. عندما وصلت الجموع إلى المقبرة وبدأت
تلوح بما تحمله من أعلام، اتخذ الجنود مواضعهم على أرض مرتفعة تطل على
الجنازة ثم فتحوا النيران عليهم، مما أدى إلى إصابة ثلاثة شباب. وسخر
المتظاهرون الغاضبون من الجنود قائلين إنهم يجب أن يتوجهوا إلى أبين حيث
سيطر الإسلاميون المسلحون على المنطقة وأعلنوها إمارة إسلامية. ورقص مجموعة
من الشباب بعد ذلك بعلم جنوب اليمن القديم أمام سيارات مدرعة تابعة للجيش.
وكانت المدينة تمتلئ ليلا بوحدات صغيرة من المسلحين يعرفون باسم «طيور
الجنة». ولا أحد يعرف على وجه الدقة هويتهم وهل هم من الجهاديين أم
الانفصاليين أم مزيج من الاثنين. وفي صباح أحد الأيام في منطقة المعلا في
عدن رأينا خمسة منهم وكانوا شبابا نحيفين قصار القامة جوعى يقفون على حاجز
طريق يخطفون حافلات تابعة للحكومة. ورأيناهم مجددا في إحدى الليالي وهم
يقفون في ركن قصي من الشارع بجانب سوق القات تأهبا لمهاجمة موكب من سيارات
الشرطة. وفي واقعة أخرى، قطعت مجموعة أخرى من الرجال الملثمين المسلحين
طريقا آخر للمطالبة بإطلاق سراح أحد رفقائهم.
في منزل قديم في عدن، جمع جماجم مجموعة من رجاله. وكانت
ثيابه مثل سياسته، مزيجا يعبر عن كل التوجهات العسكرية والثورية التي مرت
على منطقة الشرق الأوسط، حيث كان يرتدي قميصا رياضيا أسود وبنطال صاعقة
أسود ويلف كوفية سوداء حول رأسه مثل مقاتلي حزب الله، بينما تمثل لحيته
الطويلة الشعثاء وشعره الأسود الطويل الذي يصل إلى كتفه تحية للجهاديين في
جنوب اليمن.
وقال جماجم لهم: «يشعر الشباب بالحنق ولديه السلاح ويطالب
بالحرية، والطريق الوحيد للحرية هو انتزاعها. لن تمنحنا أميركا الحرية،
يجب أن نقاتل من أجلها».
قبل الربيع العربي بسنوات كثيرة، دشن هو ومئات من رفاقه
في جنوب اليمن حركة سلمية تطالب بالحرية وإنهاء حكم صالح الاستبدادي
واستغلال الشمال للجنوب. وكان رد الدولة هو الظلم. واعتقل جماجم، خلال أقل
من نصف عقد، ست مرات وتعرض للضرب وشتى أنواع التعذيب، مثل تعليقه في سقف
الزنزانة لأيام،، وكان يحلق شعره وذقنه بالسكينة. وبعد هذه التجربة تحول من
متظاهر سلمي إلى قائد مسلح يدعو إلى صراع مسلح.
تحول المتظاهرون السلميون إلى حركة انفصالية، تسمى الحراك
الجنوبي، تطالب بـ«الاستقلال» و«عودة دولة جنوب اليمن»، ولكن اتبعت الحركة
مسار الثورات العربية الأخرى لتصبح حركة شعبية كبيرة من دون قائد تحولت
إلى أكثر من مجلس أعلى للإنقاذ، ولجان ثورية، تزعم كل منها أنها ممثلة
للشعب بينما يتصارعون بسبب خلافات وعداوات شخصية. قال جماجم لأنصاره: «أيها
الإخوة، يجب عليكم أن تثوروا ولكن ليس ضد قمع الشمال فقط، بل أيضا ضد
هؤلاء الذين يزعمون أنهم قادتنا. يعزل العالم العربي الطغاة، بينما تقومون
أنتم بصناعة طاغية آخر، هؤلاء القادة ليسوا سوى مومياوات».
لقد كان السبب وراء توجه الحركة لطهران، هو الإحباط الذي
شعرت به الجماعة نتيجة عجز قادتها، حيث تقول ناشطة: «لقد ذهبنا إلى إيران
ونحن نشعر بالخزي، حيث أغلقت كل الأبواب في وجوهنا وكان الإيرانيون هم فقط
من عرض علينا المساعدة».
ماذا قالوا لإيران في النهاية؟ أجاب جماجم: «لقد رفضنا».
لقد وضعت إيران شرطا أساسيا، وهو عدم تحكم الحراك الجنوبي في مخزون
الأسلحة، بل ستكون تلك مهمة المتمردين الحوثيين في الشمال، وهم الشيعة
الذين ظلوا يحاربون الحكومة المركزية على مدار ما يقرب من عقد ويعتقد أنهم
مدعومون من قبل.
وأضاف جماجم: «لقد أخبرونا أن الحوثيين سيمدوننا بالأسلحة
والأموال، نحن نحاول أن نحرر بلادنا من أيدي سكان الشمال، ولن نكون تحت
سيطرة طرف شمالي آخر. لقد أدركنا حينئذ أن إيران تريد خداعنا، ولذلك رفضت
تلقي أموال من إيران».
ومع عودته من إيران، قرر جماجم أن يصبح جهاديا، حيث قضى
بضعة أسابيع معهم في الإمارة الإسلامية المنشقة الموجودة بمدينة جعار جنوب
اليمن. ورغم كونه علمانيا، أعجب «غيفارا جنوب اليمن» بقوة الإسلاميين.
قال جماجم لجماعته في اجتماع بمدينة عدن: «انظروا إلى
الإخوة المجاهدين في مدينة جعار، لقد حملوا سلاحهم وحرروا أراضيهم، وأقاموا
نظاما. لقد صنعوا شيئا من لا شيء، أتعلمون لماذا؟ لأن شباب (القاعدة)
يحاربون من أجل قضية بينما نحن في الحراك الجنوبي نبقي معتقداتنا داخل
قلوبنا. يجب علينا أن نضحي ونموت».
وعندما وصل إلى تلك المرحلة، تململ بعض الثوار الشباب
المجتمعين، حيث إن أغلبهم نشطاء علمانيون يمضغون القات ويدخنون وغير
ملتزمين دينيا. فسأله أحدهم: «هل تريد دولة إسلامية تطبق الشريعة؟! نحن
نريد دولة مدنية، وهو ما لن يفعله الجهاديون من أجلنا».
أجاب جماجم: «لا أريد دولة إسلامية تطبق الشريعة ولكن
الجهاديين قادمون»، وقام برسم دائرة على وسادة قائلا: «انظروا، يحيط
الجهاديون بعدن، وقد استولوا على الشرق (مدينتي زنجبار وجعار)، ويهاجمون
الآن المداخل في الشمال حتى أن بعض رجالهم قد دخلوا المدينة بالفعل». وأضاف
جماجم أن المعركة للاستيلاء على عدن أصبحت وشيكة وإذا قاومهم الانفصاليون
فسوف يكون ذلك خطأ كبيرا. وأوضح قائلا: «لقد أخبرت قادتنا أنه إذا استولى
الجهاديون على عدن، فلن أرسل رجالي ليموتوا وهم يحاربونهم. إذا فقد الشباب
الأمل في قضيتنا، فسوف يبحثون عن بديل، وحينئذ سوف ينضم شبابنا المحبط
اليائس لـ(القاعدة)».
just_f