- كان زكريا رئيس الهيكل وهو الذي كفل مريم المنذورة لخدمة الهيكل، وفي محراب الهيكل كان يأتي الرزق إلى مريم وهو من نوع كرامات الأولياء. وفيه أيضاً دعا زكـريــا ربـه بالذريـة الطيبـة قـال ـ تعالى ـ: {فّنّادّتًهٍ المّلائٌكّةٍ وّهٍوّّ قّائٌمِ يٍصّلٌَي فٌي المٌحًرّابٌ أّنَّ اللَّهّ يٍبّشٌَرٍكّ بٌيّحًيّى مٍصّدٌَقْا بٌكّلٌمّةُ مٌَنّ اللَّهٌ وّسّيٌَدْا وّحّصٍورْا وّنّبٌيَْا مٌَنّ الصَّالٌحٌينّ} [آل عمران: 93]، واستمر الحال في الهيكل هكذا حتى قتل اليهود زكريا ونشروه بالمنشار، ثم قتلوا ولده يحيى ـ عليهما السلام ـ لأنه رفض الفتيا لهم بجواز البغاء لأحد ملوكهم، وكان هذا هو الإفساد الثاني المذكور في سورة الإسراء على ما ذهب إليه بعض المفسرين في قوله ـ تعالى ـ: {وّقّضّيًنّا إلّى بّنٌي إسًرّائٌيلّ فٌي الكٌتّابٌ لّتٍفًسٌدٍنَّ فٌي الأّرًضٌ مّرَّتّيًنٌ وّلّتّعًلٍنَّ عٍلٍوَْا كّبٌيرْا} [الإسراء: 4].
- جاء آخر أنبياء بني إسرائيل وهو عيسى ـ عليه السلام ـ وكان معاصراً ليحيى وابن خالته وقد سماه اليهود: ابن البغية، وذلك قوله ـ تعالى ـ: {وّبٌكٍفًرٌهٌمً وّقّوًلٌهٌمً عّلّى مّرًيّمّ بٍهًتّانْا عّظٌيمْا} [النساء: 651]، وقد سمي بالمسيح لمسحه الأرض وسياحته فيها فراراً بدينه من الفتن لشدة تكذيب اليهود له وافترائهم عليه وعلى أمه، وكانت أحوال بني إسرائيل في غاية الفساد فعقائدهم قد طمست وأخلاقهم قد رذلت، وسيطرت عليهم المادية الجشعة حتى إنهم اتخدوا من المسجد المسمى بالهيكل سوقاً للصيارفة والمرابين وملهى لهم، وقد أنذرهم زكريا ويحيى ومن تبعهم من أنبيائهم وحذرهم عيسى من العقوبة قائلاً لهم: (مكتوب أن بيتي بيت للصلاة وأنتم جعلتموه مغارة لصوص)، ولما استيأس منهم حذرهم من أن الهيكل سوف يهدم وقال: (الحق أقول لكم، إنه لا يترك ها هنا حجر على حجر لا ينقض)، وكانت تعاليم عيسى الروحانية تنتشر بين جماهير غفيرة من السكان، مما أغاظ زعماء اليهود الماديين وكهنتهم المنتفعين، وخوفاً من اليهود على مصالحهم وكرهاً لعيسى وأتباعه من الحواريين حرضوا السلطة الرومانية على عيسى عليه السلام، وقررت مجالس اليهود الدينية الحكم عليه بالموت، ولما تبين للحاكم الروماني براءته نادى اليهود عليه بقولهم: «اصلبه اصلبه، دمه علينا وعلى أولادنا»، ولما أحكموا المؤامرة وحان القتل كان قدر الله سبق بأمر آخر قال الله ـ تعالى ـ: {وّمّا قّتّلٍوهٍ وّمّا صّلّبٍوهٍ وّلّكٌن شٍبٌَهّ لّهٍمً وّإنَّ الذٌينّ اخًتّلّفٍوا فٌيهٌ لّفٌي شّكَُ مٌَنًهٍ مّا لّهٍم بٌهٌ مٌنً عٌلًمُ إلاَّ اتٌَبّاعّ الظَّنٌَ وّمّا قّتّلٍوهٍ يّقٌينْا * بّل رَّفّعّهٍ اللَّهٍ إلّيًهٌ وّكّانّ اللَّهٍ عّزٌيزْا حّكٌيمْا} [النساء: 157، 158] .
- ظل الهيكل قائماً بعد عيسى ـ عليه السلام ـ حتى عام 04 م، حيث حاول اليهود التمرد على الحكم الروماني، فأرسل قيصر روما القائد طيطس الذي أقدم على قتل الألوف وأسر الألوف من اليهود إلى روما بما سمي «الأسر الروماني»، وقام على إحراق المدينة المقدسة وتدمير الهيكل التدمير الثاني، وتحققت نبوءة عيسى ـ عليه السلام ـ فلم يبق فيه حجر على حجر كما قال لهم من قبل، ولعل هذا هو الانتقام الإلهي من اليهود على الإفساد الثاني لهم بقتلهم الأنبياء والصالحين مثل زكريا ويحيى ومحاولتهم قتل عيسى ـ عليه السلام ـ وإيذائهم لأتباعه من الحواريين كما ذهب إلى ذلك طائفة من المفسرين في قول الله ـ تعالى ـ: {فّإذّا جّاءّ وّعًدٍ الآخٌرّةٌ لٌيّسٍوؤٍوا وٍجٍوهّكٍمً وّلٌيّدًخٍلٍوا المّسًجٌدّ كّمّا دّخّلٍوهٍ أّوَّلّ مّرَّةُ وّلٌيٍتّبٌَرٍوا مّا عّلّوًا تّتًبٌيرْا} [الإسراء: 7].
- استطاع اليهود أن يستعيدوا المدينة بعد حروب وقد بقي منهم شرذمة قليلة بها إلى أن وافاهم القائد الروماني أدريانوس فهدمها وخربها ورمى قناطر الملح على أرضها حتى لا تعود صالحة للزراعة، وأكمل تخريب الهيكل وشرد اليهود وشتتهم في أرجاء الإمبراطورية الرومانية، وحرم عليهم العودة إلى القدس والسكن فيها وذلك سنة 135م، وبذلك انتهى أمر اليهود وانقرض في الأرض المقدسة وتفرقوا في الأرض.
- اختلف أصحاب عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ فيه بعد رفعه على أقوال: منهم من قال: هو عبد الله، ومنهم من قال: هو الله ومنهم من قال: هو ابن الله، وهذا قول الله ـ تعالى ـ: {فّاخًتّلّفّ الأّحًزّابٍ مٌنً بّيًنٌهٌمً فّوّيًلِ لٌَلَّذٌينّ كّفّرٍوا مٌن مَّشًهّدٌ يّوًمُ عّظٌيمُ } [مريم: 37]، كذلك اختلفوا في نقل الأناجيل فالذين نقلوه أربعة متى ويوحنا وهما ممن أدرك المسيح ورآه، ولوقا ومرقس وهما من أصحاب أصحابه، وبينها اختلاف كبير من حيث الزيادة والنقص.
ثم حدثت الطامة الكبرى بعد أكثر من ثلاثمائة سنة من رفع المسيح عندما اختلف القساوسة والبطارقة والأساقفة في المسيح على أقوال متعددة، فتحاكموا إلى قسطنطين ملك الروم وباني القسطنطينية في المجمع الأول، فصار الملك إلى قول أكثرهم وأبعد من عداهم، وتفردت الفرقة التابعة لعبد الله بن أديوس الذي ثبت على أن عيسى عبد الله ورسوله فسكنوا البراري ولم يخالطوا أصحاب تلك الملل والنحل، وأما الآخرون فبنوا الكنائس وصوروها ولم تكن مصورة من قبل، ووضعوا القوانين والأحكام المخالفة للتوراة، وأحلوا أشياء هي حرام بالتوراة مثل الخنزير، ووضعوا لهم عقيدة يسمونها بالأمانة وهي أكبر الكفر، وقد وافقت عليها جميع المجامع النصرانية وإن اختلفوا في تفسيرها.
- لما تنصرت الدولة الرومانية رسمياً بالنصرانية المحرفة في عهد الإمبراطور قسطنطين بعد مجمع نيقية ـ المجمع الأول ـ سنة 313م، قامت أم الإمبراطور بزيارة أورشليم (القدس) وكانت متصلبة في النصرانية، وقد أُشربت بغض اليهود بما تعتقده من قتلهم المسيح، فأمرت بتصفية أطلال الهيكل وأن ينقل ما بقي من الأساطين ونحوها فتبنى بها كنيسة على قبر المصلوب وهو القبر المزعوم للمسيح، فسميت كنيسة القيامة أو القمامة، وأمرت أن يجعل موضع الهيكل مرمى أزبال البلد وقماماته، فصار موضع الصخرة مزبلة تراكمت عليها الأزبال فغطتها وانحدرت على درجها، وهذا السر في أنه رغم حفريات اليهود الكثيرة والعميقة لم يعثروا على أي أثر للهيكل.
- ظل مكان الهيكل فضاءً خالياً من أي بناء بقية عهد الرومان النصارى، وقد حدث الإسراء والمعراج بالنبي صلى الله عليه وسلم في عهد الحاكم الروماني هرقل عام 126م، وكان المكان ما زال خالياً من أي بناء، إلا أنه محاط بسور فيه أبواب داخله ساحات واسعة هي المقصودة بالمسجد الأقصى في قوله ـ تعالى ـ: {سٍبًحّانّ الذٌي أّسًرّى بٌعّبًدٌهٌ لّيًلاْ مٌَنّ المّسًجٌدٌ الحّرّامٌ إلّى المّسًجٌدٌ الأّقًصّا الذٌي بّارّكًنّا حّوًلّهٍ لٌنٍرٌيّهٍ مٌنً آيّاتٌنّا إنَّهٍ هٍوّ السَّمٌيعٍ البّصٌيرٍ} [الإسراء: 1]. وقد ظل المكان معروفاً مقدساً في داخله الصخرة رغم زوال الآثار.
- جاء الفتح الإسلامي لبيت المقدس صلحاً في عهد عمر ـ رضي الله عنه ـ سنة 16 هـ / 637م، وهي تسمى يومئذ «إيليا» وهو اسم لحقها قبل الميلاد نسبة إلى أحد قادة الرومان، أو نسبة إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل ولم يكن لليهود وجود بها وقت الفتح؛ حتى إن بطريرك النصارى اشترط في عقد تسليم المدينة عدم دخول أحد من اليهود إليها، ثم طلب عمر من البطريرك أن يدله على مسجد داود، فانطلق به حتى انتهى إلى مكان الباب وقد انحدر الزبل على درج الباب، فتجشم عمر حتى دخل ونظر، فقال: الله أكبر، هذا والذي نفسي بيده مسجد داود الذي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أسري به إليه، ثم أخذ عمر والمسلمون يكنسون الزبل عن الصخرة حتى ظهرت كلها، ولما استشار عمر كعب الأحبار وكان يهودياً قد أسلم، وكان مع جيش فتح بيت المقدس، أين يضع المسجد، قال: ضعه خلف الصخرة، فقال له عمر: ضاهيت اليهودية، وفي رواية يابن اليهودية، بل نجعله في صدر المسجد يقصد صدر الساحة، وجعل الصخرة في مؤخرته، وبعض المؤرخين يرى أن عمر لم يبن مسجداً هناك، وســؤاله لكعب الأحبار عن تعيين مكان الصــلاة وليس عــن مكان للبناء.
- بقي المسجد الأقصى على حالته بعد الفتح الإسلامي إلى أن جاء الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان فبدأ بناء المسجد الأقصى سنة 66 هـ على صورته القائمة اليوم، ووكل على بناءه رجاء بن حيوة، ثم أتم البناء ابنه الوليد بن عبد الملك، وأما الصخرة فأول من بنى فوقها مسجداً في العصر الإسلامي عبد الملك بن مروان، وهو المسجد المعروف بمسجد الصخرة، والمشهور بقبته الذهبية على المبنى المثمن، ويبدو أن هدف عبد الملك بن مروان من هذا البناء الضخم هو مواجهة ضخامة كنائس بلاد الشام خاصة كنيسة القيامة القريبة منه، فأصبح المسجد الأقصى يحوي مسجد عمر المشهور بالمسجد الأقصى، ومسجد الصخرة، والساحات المحيطة، وهذه الصخرة وما حولها التي بُني عليها المسجد كانت قبلة الأنبياء بعد موسى ـ عليه السلام ـ، وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون إلى بيت المقدس قبل تحويل القبلة إلى الكعبة المشرفة مدة ستة عشر شهراً من الهجرة حيث قال الله ـ تعالى ـ: {فّوّلٌَ وّجًهّّكّ شّطًرّ المّسًجٌدٌ الحّرّامٌ وّحّيًثٍ مّا كٍنتٍمً فّوّلٍَوا وٍجٍوهّكٍمً شّطًرّهٍ} [البقرة: 144] ، وهكذا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وبإمامته للأنبياء في المسجد الأقصى ليلة الإسراء وبتحويل القبلة إلى الكعبة المشرفة، تحول الاختيار الرباني من بني إسرائيل إلى هذه الأمة المحمدية قال الله ـ تعالى ـ: {كٍنتٍمً خّيًرّ أٍمَّةُ أٍخًرٌجّتً لٌلنَّاسٌ تّأًمٍرٍونّ بٌالًمّعًرٍوفٌ وّتّنًهّوًنّ عّنٌ المٍنكّرٌ وّتٍؤًمٌنٍونّ بٌاللَّهٌ} [آل عمران: 110]، وبفتح بيت المقدس زمن الخليفة الراشد عمر انتقلت الولاية على المسجد الأقصى إلى اتباع محمد صلى الله عليه وسلم.